كيف نبني الأردن بعد قرن من إنشائه: الهوية الثقافية والمعرفة والإعلام – التحدي الخفي (الحلقة الخامسة)
حصاد نيوز _ م. سعيد بهاء المصري
إن بناء الدولة الحديثة لا يكتمل دون ترسيخ هوية ثقافية جامعة، تقوم على الوعي التاريخي والانتماء الوطني، وتتجذر في وجدان الأجيال عبر منظومة متكاملة من التعليم، والإعلام، والإنتاج الثقافي. فالهوية ليست مجرد شعارات أو رموز، بل هي منظومة قيمية ومعرفية تتشكل من خلال التفاعل اليومي بين المواطن ومصادر المعرفة والتأثير في المجتمع.
يمثل التعليم حجر الأساس في صياغة الوعي الجمعي. والمطلوب ليس فقط تطوير المناهج المدرسية والجامعية من الناحية الأكاديمية، بل إعادة تصميمها بحيث تعزز التفكير النقدي، والابتكار، والانفتاح على العالم مع الحفاظ على الثوابت الوطنية. من الضروري أن تحتوي المناهج على مادة غنية بالتاريخ الأردني والعربي، وتعرضها بأسلوب يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، بحيث يدرك الطالب جذوره ويستوعب التحديات الراهنة.
إلى جانب التعليم الرسمي، يجب دعم الثقافة المجتمعية عبر المبادرات والمراكز الثقافية والفنية التي تحيي التراث وتعطيه حياة جديدة في لغة العصر، سواء من خلال المسرح، أو السينما، أو الفنون البصرية، أو الأدب. هذه المنصات تخلق وعيًا جمعيًا مشتركًا، وتمنح المواطنين أداة للتعبير عن الذات والمشاركة في صياغة ملامح المستقبل.
الإعلام هو ساحة الصراع الأولى على تشكيل الرأي العام. وفي عصر المعلومات الفورية، تصبح السيطرة على السردية الوطنية أكثر صعوبة، لكنها أيضًا أكثر أهمية. المطلوب هو تطوير إعلام وطني مهني قادر على المنافسة في بيئة إعلامية إقليمية ودولية، وأن يتبنى خطابًا يعكس الواقع بموضوعية، ويدافع عن المصالح الوطنية بلغة يفهمها العالم.
يجب الاستثمار في تدريب الكوادر الإعلامية على أحدث أدوات العمل الصحفي والإعلامي الرقمي، بما في ذلك تقنيات إنتاج المحتوى المرئي والمسموع والبودكاست، واستراتيجيات الانتشار على منصات التواصل الاجتماعي. كما أن الإعلام الوطني يجب أن يتبنى حملات ترويجية ممنهجة لإبراز الأردن كوجهة ثقافية وسياحية واستثمارية، مستفيدًا من قوة الصورة والقصص الإنسانية المؤثرة.
الثورة الصناعية الرابعة والخامسة فتحت آفاقًا جديدة لتوظيف التكنولوجيا في خدمة الثقافة والتعليم والإعلام. فالمنصات الرقمية يمكن أن تكون جسرًا للوصول إلى الجمهور محليًا ودوليًا، والمكتبات الإلكترونية توفر ملايين المصادر المعرفية، وتقنيات الواقع الافتراضي والمعزز يمكن أن تحول المواقع الأثرية والتراثية إلى تجارب حية، ما يربط الأجيال الجديدة بتاريخها بطريقة مبتكرة وجاذبة.
كما يمكن للتعليم الإلكتروني والمنصات التفاعلية أن توسع من فرص الوصول إلى المعرفة، خصوصًا في المناطق النائية، ما يحقق عدالة أكبر في توزيع الفرص التعليمية. وهنا يبرز دور الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ومؤسسات المجتمع المدني، لتطوير محتوى رقمي نوعي يواكب احتياجات المجتمع ويلبي متطلبات سوق العمل المستقبلية.
الثقافة ليست فقط مجالًا للهوية والانتماء، بل هي أيضًا قطاع اقتصادي واعد يمكن أن يسهم في الناتج المحلي الإجمالي ويوفر فرص عمل، من خلال الصناعات الإبداعية مثل التصميم، الإنتاج الفني، السياحة الثقافية، النشر، والألعاب الإلكترونية. الاستثمار في هذه القطاعات يحقق عائدًا مزدوجًا: تنمية اقتصادية وتعزيز للهوية الوطنية.
إن حماية الهوية الثقافية وتعزيزها في الأردن يتطلب تنسيقًا بين وزارات التربية والتعليم، الثقافة، الإعلام، والسياحة، إلى جانب المؤسسات الأكاديمية والبحثية. فالمعركة الحقيقية لبناء دولة قوية ليست فقط في ميادين السياسة والاقتصاد، بل أيضًا في فضاء الوعي الجمعي، حيث تُصاغ القيم وتُبنى الثقة بالمستقبل