التوراة بين الأسطورة والواقع الأثري

15٬229

حصادنيوز – م. سعيد بهاء المصري –  هذا المقال يستند إلى كتاب «التوراة المكشوفة: رؤية جديدة لعلم الآثار عن إسرائيل القديمة وأصل نصوصها المقدسة»، المؤلف من قبل عالم الآثار الإسرائيلي إسرائيل فِنكلستاين والمؤرخ نيل آشر سيلبرمان. وقد اخترت تسليط الضوء على بعض فقراته المهمة التي تهم القراء المهتمين بتاريخ اليهود في منطقتنا، وذلك حسب رواية الكاتبين المستندة إلى شواهد وأدلة أثرية.

المملكة الموحَّدة: بين الزعامة المحلية والأسطورة الإمبراطورية

الأدلة الأثرية المتاحة تعكس صورة مختلفة تمامًا عن تلك التي رسمتها التوراة للمملكة الموحَّدة. فمدينة أورشليم في القرن العاشر قبل الميلاد لم تكن عاصمة عظيمة كما وصفتها النصوص، بل مستوطنة صغيرة محصورة على تل يسكنها بضعة آلاف فقط، تفتقر إلى المباني الملكية أو المنشآت الكبرى.

أما ما ينسب تقليديًا لسليمان من إنجازات معمارية كبرى – مثل الأسوار والقصور والبوابات الحجرية في مدن حاصور ومجدو وجازر – فتُظهر الدراسات الحديثة، وفق الكرونولوجيا المنخفضة التي تبناها فِنكلستاين، أنها تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وبالتحديد إلى عهد ملوك المملكة الشمالية (العمريين)، الذين امتلكوا بالفعل موارد وإدارة مركزية لبناء مثل هذه المشاريع.

على الصعيد السياسي، يبدو أن داود لم يكن ملكًا على إمبراطورية مترامية الأطراف، بل زعيمًا محليًا أو رئيس عشيرة يدير كيانًا صغيرًا في القدس وضواحيها. أما سليمان فكان على الأرجح حاكمًا محدود النفوذ لا يختلف كثيرًا عن أمراء المناطق المجاورة.

دينياً، يعكس تصوير المملكة الموحَّدة في النصوص التوراتية محاولة لاحقة لإضفاء شرعية دينية وسياسية على مملكة يهوذا في القرن السابع ق.م. فقد أراد كتبة ذلك العصر – وخاصة في عهد الملك يوشيا – أن يصوروا ماضيًا مثاليًا يُستحضر كنموذج يُحتذى لإعادة بناء وحدة دينية وسياسية حول أورشليم. وهكذا تحوّلت المملكة الموحَّدة من واقع محدود إلى أسطورة إمبراطورية تحمل رسالة إصلاحية في زمن لاحق.

رواية الخروج: من التاريخ الغائب إلى الأسطورة المؤسسة

قصة الخروج من مصر، كما وردت في التوراة، تعد واحدة من أكثر الروايات مركزية في تشكيل الهوية الإسرائيلية. لكن البحث الأثري يكشف غياب أي دليل على هجرة جماعية بهذا الحجم في أواخر العصر البرونزي. فالمواقع المفترضة للمسار مثل قادش برنيع كانت خالية من السكان في الفترة نفسها، ولم تترك أي أثر لاستضافة جماعة بشرية كبيرة. كذلك، فإن السجلات المصرية الدقيقة التي وثقت تحركات الشعوب والقبائل لم تذكر أي شيء عن خروج جماعي للعبيد العبرانيين.

سياسيًا، من المرجح أن هذه القصة لم تُصَغ لتكون سجلًا تاريخيًا بل لتؤدي وظيفة أيديولوجية. فهي تؤكد على أن بني إسرائيل شعب محرر على يد إلهه، ما يمنحهم تميزًا عن بقية الشعوب. أما دينيًا، فقد أصبحت القصة إطارًا لتفسير العلاقة بين الشعب ويهوه: إله أنقذهم من العبودية واشترط عليهم الالتزام بالوصايا.

ثقافيًا واجتماعيًا، لعبت هذه الأسطورة دورًا في توحيد القبائل المتفرقة التي نشأت داخل كنعان. فقد شكّلت القصة ذاكرة مشتركة ربطت المجموعات المختلفة ببعضها البعض، وأعطتهم تاريخًا موحدًا يرسّخ فكرة أنهم أمة واحدة خرجت من تجربة عبودية إلى حرية، ومن التشتت إلى وحدة. وبذلك تحولت رواية الخروج إلى أسطورة تأسيسية، ليس لأنها سجلت وقائع، بل لأنها صاغت هوية وهوية مضادة في مواجهة الآخر.

أنماط الاستيطان الإسرائيلي المبكر: تحول داخلي لا غزو خارجي

تشير نتائج المسوحات الأثرية في مرتفعات كنعان الوسطى (الضفة الغربية الحالية) إلى حدوث طفرة استيطانية كبيرة بين عامي 1200 و1000 ق.م. ظهرت مئات القرى الصغيرة، غير المحصنة، تعتمد على الزراعة البعلية وتربية المواشي. ومن ملامحها المميزة: بيوت ذات أربع حجرات وأدلة غذائية خالية من عظام الخنزير، ما يعكس خصوصية ثقافية جديدة تميزها عن جيرانها الكنعانيين.

سياسيًا، هذه القرى لم تكن جزءًا من كيان واحد منظم بل مجتمعات محلية مستقلة، مما يجعل رواية الفتح العسكري بقيادة يشوع أبعد ما تكون عن الواقع. فعلى سبيل المثال، أريحا وعا كانتا في تلك الفترة إما مدمرتين أو مجرد قرى صغيرة، لا يمكن أن تكونا قد سقطتا في غزو واسع كما تصف النصوص.

اجتماعيًا، يوضح هذا النمط أن الإسرائيليين الأوائل كانوا في الغالب كنعانيين محليين أعادوا تنظيم أنفسهم في المرتفعات بحثًا عن حياة أكثر مساواة وبساطة، بعيدًا عن النظم المدينية الهرمية في السهول.

ثقافيًا، أسهمت هذه العزلة في صياغة هوية مميزة – عبر أنماط السكن والغذاء والتنظيم الاجتماعي – أفرزت تدريجيًا شعبًا يرى نفسه مختلفًا عن المحيط. وهكذا لم يكن الاستيطان الإسرائيلي نتاج غزو خارجي، بل تحول داخلي ضمن المجتمع الكنعاني نفسه.

السبي البابلي: لحظة إعادة التكوين

السبي البابلي عام 586 ق.م كان لحظة فاصلة في تاريخ بني إسرائيل. فمع سقوط أورشليم وتدمير المعبد، انهارت شرعية الملكية الداودية، ووجد الشعب نفسه أمام معضلة وجودية: كيف يحافظ على هويته بلا دولة ولا معبد؟

سياسيًا، أدى فقدان الكيان إلى تحويل الولاء من الدولة إلى الجماعة، ومن العرش إلى التوراة. أما دينيًا، فقد أعيدت صياغة العلاقة مع يهوه عبر التأكيد على العهد والوصايا بدلاً من طقوس المعبد. في هذه المرحلة دُوِّنت التوراة بصورتها شبه النهائية، لتصبح كتابًا جامعًا يمكن حمله وممارسته في أي مكان، وجعلت اليهودية ديانة قادرة على البقاء في الشتات.

ثقافيًا واجتماعيًا، تحولت الكارثة إلى أداة تفسيرية: فالهزيمة اعتُبرت عقابًا على خطايا الشعب، ما أعطى معنى للمعاناة وأداة إصلاح داخلي. كما نشأت مؤسسات جديدة مثل المجامع الصغيرة، التي شكّلت لاحقًا أساس الحياة الدينية اليهودية خارج أورشليم.

الأثر البعيد المدى كان في تمكين اليهود من تطوير هوية تتجاوز الجغرافيا والسياسة. فالتوراة والشرائع أصبحت بمثابة وطن متنقل يحمله الشعب معهم، ما سمح لهم بالبقاء أمة حية رغم فقدان الاستقلال لقرون طويلة. وبذلك مثّل السبي البابلي لحظة إعادة تكوين أعادت تعريف اليهودية، ورسمت مستقبلها في المنطقة والعالم.

 

قد يعجبك ايضا