التحديث يحتاج إلى تحديث

9٬086

 

حصادنيوز –  د.م. أمجد عودة الشباطات – صياغة رؤى وطنية شاملة ليست مجرد تحديد أهداف طموحة أو رسم خطوط عريضة لمستقبل مرغوب، بل هي عملية معقدة تتطلب دقة في اختيار المفاهيم، وإحكامًا في البناء المنهجي، وربطًا محكمًا بين التخطيط والتنفيذ. وأي خلل في إدراج عناصر جوهرية ضمن الإطار التنفيذي قد يؤدي إلى فجوة بين ما هو مكتوب وما يمكن تحقيقه على أرض الواقع. ومن بين هذه العناصر، تأتي إدارة التغيير كأحد المفاتيح الأساسية التي أثبتت التجارب العالمية أنها تحدد بشكل كبير فرص النجاح أو الفشل في المبادرات الوطنية الكبرى.

عند مراجعة وثيقة رؤية التحديث الاقتصادي المكونة من 124 صفحة، يظهر بوضوح أن بعض المفاهيم المحورية لم تُعالج بالعمق المطلوب. ففي الصفحة 120، وتحت عنوان “عوامل النجاح الرئيسة” التي تتضمن مأسسة العمليات، ورد حرفيًا تعبير “إدارة التغيير عند اللزوم”. وفي الصفحة 121، جاء توصيف عام وفضفاض لا يقدم إطارًا عمليًا ولا يوضح كيفية تطبيق إدارة التغيير في سياق الرؤية، وكأنها عنصر تكميلي يمكن استدعاؤه عند الضرورة، وليس ركيزة مدمجة في كل مرحلة من مراحل التنفيذ. حيث يفترض أن تُبنى الرؤية على إطار تنفيذي متكامل، تُدمج فيه إدارة التغيير كعلم تطبيقي شامل لا يقتصر على معالجة مقاومة التغيير، بل يمتد ليشمل بناء رؤية مشتركة وخلق شعور بالإلحاح كما في منهجية Kotter، وتأسيس تحالف قيادي يقود التحول، وتمكين فرق العمل من تحقيق إنجازات مرحلية، وترسيخ السلوكيات الجديدة في الثقافة المؤسسية. ووفق نموذج McKinsey 7S، فإن نجاح التغيير يتطلب مواءمة سبعة عناصر جوهرية هي: الإستراتيجية، الهيكل التنظيمي، النظم والإجراءات، أسلوب القيادة، المهارات، الكوادر البشرية، والقيم المشتركة. إلى جانب ذلك، يجب أن تُدار الحوكمة كمنظومة رقابية وتشريعية واضحة، ويُحدد التمويل بمصادر وآليات صرف مرتبطة بمؤشرات أداء، وتُصاغ خطط لبناء القدرات البشرية والفنية، وتُفعَّل أنظمة متابعة وتقييم قائمة على بيانات دقيقة، بحيث تعمل جميع هذه العناصر في مسار واحد مترابط يضمن استدامة التنفيذ وتحقيق الأثر الفعلي.

وعلى مستوى الخبرة العالمية في الإدارة، تتصدر شركات PwC وKPMG وMcKinsey & Company وDeloitte وBoston Consulting Group (BCG) قمة هرم الاستشارات الإدارية بحسب تصنيف موقع Consultancy.org لعام 2025، وقد أجمعت في أدبياتها ومنهجياتها على أن إدارة التغيير ركيزة محورية لا تنفصل عن أي عملية تحديث أو تحول استراتيجي، ويجب أن تُدمج منذ اليوم الأول ضمن منهجية واضحة ومؤسسية تشمل تحديد الأطراف المتأثرة، وإدارة مقاومة التغيير، وخطط التواصل والتعبئة، وبناء القدرات، وقياس الأثر بشكل مستمر. كما تؤكد أن التعامل مع إدارة التغيير كخيار ظرفي أو نشاط ثانوي هو أحد أكبر أسباب فشل المشاريع التحويلية، ويضاعف احتمالية الإخفاق إلى أكثر من 70%.

وفق معايير هذه الشركات الاستشارية الكبرى، فإن عبارة “إدارة التغيير عند اللزوم” تمثل خطأ فادحًا وخطرًا استراتيجيًا جسيمًا، لأنها تكشف أن إدارة التغيير لم تُدمج كركيزة محورية في الرؤية، بل وُضعت كإجراء إسعافي يُستدعى عند الأزمات، وهو نهج يقوّض فرص نجاح رؤية تحديث وطنية بهذا الحجم.

وإصلاح هذه الفجوة لا يقتصر على معالجة صياغة العبارات أو إضافة تفاصيل تقنية، بل يتطلب إعادة هيكلة الإطار التنفيذي للرؤية بما يضمن دمج منهجيات الإدارة الحديثة بشكل تدريجي ومدروس في القطاعات الحكومية، بدءًا بالوزارات الخدمية التي تمثل نقاط تماس مباشرة مع المواطن مثل وزارة الأشغال العامة والإسكان، ووزارة الإدارة المحلية، ووزارة المياه والري. اختيار هذه الوزارات كبداية يستند إلى كونها تتعامل مع مشاريع بنية تحتية وخدمات أساسية تؤثر بشكل مباشر على حياة الناس، مما يجعلها بيئة مثالية لتطبيق أدوات إدارة التغيير وقياس أثرها وبناء نماذج نجاح قابلة للتعميم. هذا النهج من شأنه أن يسرّع عملية التحول، ويقلل من مقاومة التغيير، ويعزز الثقة الشعبية في مسار التحديث، ليصبح الانتقال من الرؤية إلى الواقع أمرًا ملموسًا يلمسه المواطن في تفاصيل حياته اليومية.

 

 

قد يعجبك ايضا