الملك في حوار شامل : كأب وكقائد أرى في الحسين قائداً هاشمياً

53

80416_1_1407655716

حصاد نيوز – أكد جلالة الملك عبدالله الثاني أن إسرائيل تتحمل بالدرجة الأولى مسؤولية العدوان على قطاع غزة، ويتحمل العالم بأسره مسؤولية إنهاء الاحتلال، وهو الأخير من نوعه في التاريخ المعاصر.

وشدد جلالته في حوار شامل أجرته مع جلالته رئيس التحرير المسؤول في “الغد” جمانة غنيمات، على أن ما حدث ويحدث في غزة هو صرخة فلسطينية للعالم أجمع بأن أوقفوا الاحتلال والدمار والقتل بحق شعب ينشد الحرية والأمن والعيش بكرامة.

ودعا جلالة الملك في المقابلة التي تناولت العديد من الشؤون المحلية والعربية والدولية المجتمع الدولي لمساءلة إسرائيل عمّا ترتكبه من جرائم بحق الفلسطينيين في غزة، مؤكدا أن الشعب الفلسطيني، خصوصا أهلنا في غزة، هو صاحب الحق الأول والأخير في مراجعة ما يجرى والحكم عليه.

وقال جلالة الملك “كان بإمكاننا وبكل سهولة تصدر عناوين وسائل الإعلام خلال العدوان، عبر تصريحات وشعارات شعبية، لكننا نفضّل العمل بفاعلية وروية لإنهاء العدوان الإسرائيلي ورفع المعاناة وضمان استمرار خطوط المساندة إلى أهلنا في غزّة”.

وفيما يتعلق بمساعدة الأردن لفلسطين والشعب الفلسطيني، شدد جلالة الملك قائلا “لا نقبل أن يزاود أحد على الأردن فيما يخص فلسطين”.

وجدد جلالته التأكيد على أن السلام هو الحل الوحيد، وإلا وجدنا أنفسنا في المستقبل نتحدث عن حرب إسرائيلية خامسة وسادسة وسابعة على غزة.

كما اكد جلالة الملك على أن حل الدولتين هو السبيل الوحيد لحل النزاع العربي الاسرائيلي وتحقيق الأمن والاستقرار للمنطقة كلها.

وردا على سؤال حول الأزمة السورية وتداعياتها على الأردن والمنطقة، قال جلالة الملك “لا يوجد حل سريع أو فوري أو عسكري للأزمة السورية، وتنامي التطرف يزيد من تعقيد المشهد. والتطورات التي نشهدها هي وصفة للدمار ولتسريع تصدير الأزمة من سورية إلى الجوار”.

وأضاف جلالته “الحل الوحيد المتاح هو الحل السياسي بين المعارضة الوطنية المعتدلة والنظام”، محذرا من أن غياب الحل السياسي واستمرار الجمود، فإن سورية تتسارع نحو سيناريو الدولة الفاشلة.

وفيما يتعلق باللاجئين السوريين، قال جلالته “نحن مستمرون في دورنا القومي والإنساني ولن نتوانى عنه، لكن لن يتردد الأردن للحظة في اتخاذ أي من الإجراءات الضرورية في حال تهديد أمنه أو استقراره”.

أما بخصوص الأزمة العراقية، فقال جلالة الملك إن “العراق كان وسيبقى السند لنا، كما سنبقى السند له عبر التاريخ. والعراق في أمسّ الحاجة اليوم إلى عملية سياسية وطنية جامعة تشارك فيها كل الأطياف والمكونات دون استثناء لأي طرف”.

وتابع جلالته، هناك مسؤولية تاريخية على عاتق الحكومة العراقية القادمة، أياً كان رئيسها، وهي ضرورة انتهاج سياسات عادلة تُشرِك الجميع في السلطة وفي بناء الدولة، وترسخ شعور جميع العراقيين بأنهم شركاء حقيقيون في صناعة مستقبل العراق.

وجدد جلالة الملك التحذير من خطورة استغلال الدين لأغراض سياسية، وضرورة نبذ خطاب العنف الطائفي والفرقة المذهبية.

كما شدد جلالته على ضرورة حماية جميع الطوائف الدينية ذات الوجود التاريخي والأصيل في منطقتنا، وخاصة الهوية المسيحية.

وفي هذا السياق، قال جلالة الملك إن الاسلام بريء جملة وتفصيلا من الاضطهاد الذي تشهده المجتمعات المسيحية العربية الأصيلة في الموصل.

وعلى الصعيد المحلي، قال جلالته ردا على سؤال حول الأزمات التي تواجه الاردن؛ “مرّت علينا ظروف أصعب من التي نواجهها اليوم، فالأردن أقوى بكثير مما يعتقده البعض، وأنا مطمئن على استقرار الأردن ومَنعَته، وقدرتنا على تحويل التحديات إلى فرص”.

وأضاف جلالة الملك أننا حريصون على بناء أعلى درجات التوافق الوطني إزاء المفاصل الرئيسية، خاصة الإصلاحية منها. ولكن، من الضروري أن يتم ذلك عبر أدوات المواطنة الفاعلة والنقاش العام وضمن المؤسسات الدستورية ممثلة بمجلس الأمة وعلاقته بالحكومة.

وبخصوص الأوضاع في معان، قال جلالة الملك “أدرك أيضاً وفي إطار متابعتي للهموم الوطنية، بأن البعض يشير إلى الوضع في معان في سياق ضعف الجبهة الداخلية. هذه النظرة غير صحيحة ولا تعرف واقع معان وتاريخها الوطني. لِمَعَان وأهلها إسهامات تاريخية مشرّفة في تأسيس الأردن ونهضته، وشعورهم الوطني أصيل”.

وأضاف جلالته “الخارجون على القانون يعطلون الحياة اليومية لأهل معان، وينتجون ظرفاً أمنياً يؤخّر قدرة الحكومة على الاستجابة في تنفيذ المشاريع الاقتصادية والتنموية التي يطالب بها أهل معان”.

من جانب آخر، وردا على سؤال حول الإصلاحات في الاردن، شدد جلالته “لن نسمح أن تُتَّخذ الظروف والتحديات الإقليمية الصعبة، سواء كانت العدوان الإسرائيلي على غزة أو النزاع في سورية أو الاضطرابات في العراق أو خطر التطرف، ذريعة للتردد في الإصلاح أو التراجع عنه”.

كما أكد جلالة الملك على أن “توفير الحياة الكريمة لشعبي ولأجيال المستقبل هو شغلي الشاغل”.

وأضاف جلالة الملك أن ترسيخ الاستقرار والتعاون النيابي والحكومي، المدعوم بسلطة قضائية مستقلة، هو عنصر ضروري للتدرج التراكمي في الإصلاح وفق دورات ذات مواعيد دستورية واضحة ومعلومة للجميع، كما هو الحال في كل الديمقراطيات الراسخة.

وتابع جلالته قائلا “نحن بصدد ترسيخ استقرار العمل النيابي والحكومي بحيث يُكمِل المجلس النيابي مدته لأربع سنوات كاملة طالما تمتع بثقة الشعب، وتستمر الحكومة في مسؤولياتها طالما تمتعت بثقة مجلس النواب، وهذا هو الأساس في الأنظمة الديمقراطية الحديثة”.

وأكد جلالة الملك “إننا نحتكم إلى تقييم العمل بموضوعية وإلى المسارات الدستورية، وليس إلى مزاجات بعض صالونات عمان السياسية وبعض السياسيين الذين يروجون لأنفسهم في وسائل الإعلام من فترة إلى أخرى”.

وردا على سؤال حول الدور الذي يرسمه جلالته لولي العهد سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، قال جلالته “أحرص بدوري كل الحرص على أن يكون ولدي وولي عهدي على معرفة عميقة بأسس صناعة القرار”.

وأضاف “وبعد إتمامه لدراسته، سيكون التحاقه في صفوف الجيش العربي المصطفوي، إلى جانب إخوانه من حماة الوطن ورفاق السلاح، محطة مهمة لتحصيل التجارب الحياتية.

وفي ختام الحوار بارك جلالة الملك لـ”الغد” “مرور عشر سنوات على مسيرتكم، متمنيا لكم وللأسرة الإعلامية الأردنية المزيد من التقدم على طريق العمل الإعلامي الوطني، والارتقاء بمستوى العمل الإعلامي نحو مزيد من المهنية والمصداقية والموضوعية والمسؤولية الإعلامية والأخلاقية”.

وفيما يلي نص الحوار :-

• جلالة الملك، في ضوء التطورات الإقليمية المتسارعة، اسمح لي أن نبدأ الحديث في الشأن الإقليمي وتداعياته، ومن ثم بعض الملفات الوطنية. قضية الساعة الآن هي غزّة. العدوان الإسرائيلي استمر أكثر من شهر، طالبتم جلالتكم بوقف العدوان وحذرتم مرارا منه. في ظل السياسات الإسرائيلية الراهنة واستهداف الأطفال والنساء والمدنيين، والكارثة الإنسانية التي خلّفتها إسرائيل، كيف ترى جلالتكم الدور الأردني خلال هذه الأزمة؟

– شهداؤنا من أهل غزّة هم أحياء عند ربِّهم يرزقون بإذن الله تعالى. ما نعيشه من ألم ومعاناة جراء العدوان الذي يحصد أرواح الأبرياء دون تمييز ينفي مزاعم إسرائيل في تبريرها للحرب على غزة. إسرائيل بالدرجة الأولى تتحمل مسؤولية العدوان على القطاع، ويتحمل العالم بأسره مسؤولية إنهاء الاحتلال، وهو الأخير من نوعه في التاريخ المعاصر، وحرمان شعب شقيق من حقه في إقامة دولته على ترابه الوطني، واستمرار حصار ظالم، واستيطان يقوّض فرص السلام. ما حدث ويحدث في غزة هو صرخة فلسطينية للعالم أجمع بأن أوقفوا الاحتلال والدمار والقتل بحق شعب ينشد الحرية والأمن والعيش بكرامة.

هذا العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة هو رابع عدوان موسّع منذ انسحاب إسرائيل أحادي الجانب من القطاع عام 2005، وهو الأصعب والأكثر دموية من حيث عدد الضحايا، خصوصا من النساء والأطفال وكبار السن، بل هناك عائلات أبيدت بالكامل. قلبنا مع غزة وأهلها، ومصابنا وألمنا واحد، وعواطفنا جميعا مشحونة. لكن، أخت جمانة، علينا الآن أن ننظر بعقلانية لما حصل ويحصل. المدنيون الأبرياء، خاصة في غزة، هم من يدفع الثمن وهذا أمر غير مقبول إطلاقا إنسانيا وأخلاقيا. على المجتمع الدولي أن يسائل إسرائيل عمّا ترتكبه. والشعب الفلسطيني، خصوصا أهلنا في غزة، هم أصحاب الحق الأول والأخير في مراجعة ما يجرى والحكم عليه.

كان بإمكاننا وبكل سهولة تصدر عناوين وسائل الإعلام خلال العدوان، عبر تصريحات وشعارات شعبية، لكننا نفضل العمل بفاعلية وروية لإنهاء العدوان الإسرائيلي ورفع المعاناة وضمان استمرار خطوط المساندة إلى أهلنا في غزّة. والأردن بذل ويبذل كل الجهود، وقد دعم المبادرة المصرية لوقف العدوان منذ البداية، وهي المبادرة التي تبين في النهاية أنها الوحيدة الممكنة في ظل الظروف الراهنة. نستمر بإدامة الجسرالإغاثي لأهلنا في غزة، ويواصل المستشفى الميداني عمله على الأرض ونكثف الدعم المخصص له، وننسق دخول قوافل المواد الإغاثية والأدوية، ونسهم في إنقاذ الناس ومعالجة المصابين والتخفيف من معاناتهم. لقد سخّرنا كل قدراتنا من أجل أهلنا في فلسطين على مدار التاريخ بالفعل وليس بالقول، وسنبقى الرئة للشعب الفلسطيني، وهذا واجبنا التاريخي والقومي تجاه أشقائنا، ففلسطين قضيتنا الأولى. ولا نقبل أن يزاود أحد على الأردن فيما يخص فلسطين، فتضحيات شهداء الجيش الأردني على ثراها معروفة للقاصي والداني.

وسنستمر في توظيف علاقات الأردن وحضوره في المنابر الدولية مثل مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان من أجل وقف نهائي للعدوان ومنع تكراره وحشد الجهود الدولية لإعمار غزة، وإيجاد الأرضية المناسبة لإعادة إطلاق مفاوضات قضايا الوضع النهائي بشكل حاسم، وبما يحقق السلام على أساس حل الدولتين وفق المرجعيات الدولية ومبادرة السلام العربية، وبما يلبي طموحات الشعب الفلسطيني، ووفاء لتضحياته ودماء شهدائه.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن العدوان على غزّة استغل الفراغ الناجم عن توقف المفاوضات حول قضايا الوضع النهائي وفق حل الدولتين، ويهدد بمزيد من العنف والتصعيد وتكراره، وهو ما حذرنا منه باستمرار. ونؤكد أن الأردن سيستمر بالتصدي للإجراءات والسياسات الإسرائيلية الأحادية في القدس ووقف الانتهاكات المستمرة لحرمة المسجد الأقصى والتعرض للمصلين، في إطار الوصاية الهاشمية.

• ولكن جلالة الملك، هل ثمة فرصة للسلام وحل الدولتين، برأيكم، خصوصا بعدما تعثرت جهود استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين وأخفقت محاولة الإدارة الأميركية الأخيرة في التوصل لاتفاق سلام بين الطرفين. وهل بذلت الإدارة الأميركية برأيكم ما يكفي لتحقيق هذا الهدف، ومن يتحمل مسؤولية الفشل في تحقيق تقدم على هذا الصعيد، وماذا سيترتب على هذا الفشل في المستقبل؟

– في ظل العدوان على غزة وما نشهده من عنف ودمار وتصاعد في أعداد الشهداء، قد نشهد ضغطاً دولياً للمضي قدماً في حل للصراع، فالنزاعات تقود إلى طاولة المفاوضات وقد تلوح فرصة لحل النزاع بشكل نهائي، والسلام هو الحل الوحيد، وإلا وجدنا أنفسنا في المستقبل نتحدث عن حرب إسرائيلية خامسة وسادسة وسابعة على غزة يكون الشعب الفلسطيني فيها هو الضحية وتبقى إسرائيل عاجزة عن تحقيق أمنها.

حل الدولتين هو السبيل الوحيد لحل النزاع وتحقيق الأمن والاستقرار للمنطقة كلها. وأمن إسرائيل لن يتحقق إلا بتوجه صادق نحو خيار السلام العادل وحل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية ذات سيادة على خطوط الخامس من حزيران عام 1967 وفق المرجعيات الدولية ومبادرة السلام العربية وعاصمتها القدس الشرقية، وتتمتع بتواصل جغرافي حقيقي وباقتصاد قابل للنمو والازدهار. بهذا فقط ستحظى إسرائيل بالأمن والقبول في المنطقة والعالم.

أما المسؤولية، إن فشلت جهود السلام، فيتحملها المجتمع الدولي بأسره، والأهم من ذلك أن الجميع سيدفع ثمن الفشل، خاصة أجيال المستقبل التي نتحمل المسؤولية أمامها. ويجب أن نبني على الجهود والعمل البنّاء الذي بذلته الإدارة الأميركية، وتحديدا وزير خارجيتها جون كيري حيال القضية الجوهرية في المنطقة. ونأمل أن تتوفر الفرصة قريبا لاستئناف مفاوضات الوضع النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وكما ذكرت سابقا، سينصب الجهد الأردني على إيجاد الأرضية المناسبة للعمل بهذا الاتجاه.

• جلالة الملك، ننتقل إلى الشأن السوري، حيث شهدت سورية مؤخرا انتخابات رئاسية كرست سلطة بشار الأسد. لكنّ الأوضاع في تدهور مستمر، والمعارضة المعتدلة عاجزة عن أن تكون بديلا قويا، بينما يحقق المتشددون حضورا كبيرا. هل نحن أمام صراع طويل في سورية، وكيف يمكن للشعب السوري أن يتجاوز محنته؟

– لا يوجد حل سريع أو فوري أو عسكري للأزمة السورية، وتنامي التطرف يزيد من تعقيد المشهد. والتطورات التي نشهدها هي وصفة للدمار ولتسريع تصدير الأزمة من سورية إلى الجوار. وأخشى أن يكون ما يحدث في سورية بداية مرحلة طويلة من القتل والخراب، وهذا ما حذرنا منه مرارا.

الحل الوحيد المتاح هو الحل السياسي بين المعارضة الوطنية المعتدلة والنظام. إن استمرار الوضع الراهن يهدد وحدة سورية ويكرس نزاعا طائفيا مفتوحا، وستكون سورية والسوريون، نظاما ومعارضة، هم أكبر الخاسرين.

استمرار الأزمة السورية دون حل جعل التحدي الأكبر الذي يواجه الإقليم والعالم هو نمو التطرف وتدفق المقاتلين من مختلف الدول، بينما تتفاقم الأزمة وتتمزق سورية وتسيل دماء الشعب السوري. إلا أن التركيز يجب أن ينصبّ أيضاًعلى إيجاد حل سياسي ينهي معاناة الشعب السوري، وعدم حصر الاهتمام العالمي بالتعامل مع التطرف والإرهاب فقط، والذي يعتمد نجاحه على إنهاء المأساة التي ولدت وتغذي هذا التطرف والإرهاب. ولذلك، يجب المضي بالمسارين بالتوازي والتساوي. وقد آن الأوان لبلورة موقف عربي ودولي موحد وداعم لإيجاد حل سياسي شامل للأزمة السورية.

لذلك، على جميع الأطراف المؤثرة على النظام والمعارضة حثهما على الجلوس إلى طاولة الحوار، للوصول إلى حل سياسي يشمل جميع أطراف المجتمع السوري ومكوناته بحيث يكون الجميع شركاء في حل الأزمة وبناء المستقبل، ويتم إطلاق عملية سياسية تتأسس على المصالحة الوطنية وتتبنى إصلاحات سياسية يرى فيها السوريون السبيل للخروج من الوضع الراهن وتتيح إعادة بناء سورية. وبغياب الحل السياسي واستمرار الجمود، فإن سورية تتسارع نحو سيناريو الدولة الفاشلة، وسيتعمق سيناريو التقسيم، وسيتسارع تصدير الأزمة من سورية إلى دول الجوار ذات التركيبة الديمغرافية المشابهة، والذي أصبح واقعاً نشهده الآن. كما أن استمرار الصراع في سورية سيحوله إلى صراع طائفي على مستوى الإقليم وفتنة مذهبية تقوّض فرص أمتنا بالنهوض والتقدم.

• جلالة الملك، يستضيف الأردن على أراضيه ما يزيد على المليون لاجئ سوري، والعدد في تزايد مستمر كل يوم، وفي الأثناء لا يقدم المجتمع الدولي ما يلزم من المساعدات لتحمل كلفة اللاجئين. عند أية نقطة يمكن للأردن أن يتوقف عن تحمل المزيد من أعباء اللجوء؟ وفي حال كان هناك تصاعد في موجة جديدة من اللاجئين من الأشقاء العراقيين بسبب الظروف الراهنة، فما هي خيارات الأردن الممكنة؟

– الأردن وكعهده دوماً ينهض بدوره القومي والعروبي وواجبه الإنساني، فعلاً وليس قولاً، تجاه الأشقاء من اللاجئين ومؤخرا السوريين، بدون مزايدات وبعيداً عن الشعارات الزائفة ومن منطلق ثوابت ومبادئ الثورة العربية الكبرى التي تأسس عليها، فالأردن يحتضنهم في هذا الظرف الصعب ولا يكتفي بالشعارات بل يتحمل ضغوطا هائلة على إمكاناته وموارده جراء هذا الموقف. ولكنْ، لهذا الدور طاقة وحدود لن نستطيع تجاوزها.

ومع تقديرنا لدعم أصدقاء الأردن الذي نثمنه عاليا، إلا أن العالم قد قصّر في دعم الأردن، حيث إن حجم الدعم لم يرتق إلى مستوى الأزمات التي نعايشها والأعباء الضخمة التي نستمر في تحملها، خاصة تبعات أزمة اللجوء السوري، وفي ظل تنامي أعداد اللاجئين وما يسببه من تزايد الضغوطات المالية غير المسبوقة، واستنزاف البنية التحتية والخدمات الأساسية للأردنيين، وعدم مواكبة الدعم الدولي لتسارع تبعات أزمة اللجوء السوري.

وليتذكر العالم بأن الأردن هو ثالث أكبر دولة مضيفة للاجئين في العالم، وقد كان لهذا العبء تأثير هائل على شعبنا وعلى خزينة الدولة، وعلى البنية التحتية لبلادنا. فمخيم الزعتري هو ثاني أكبر مخيم لاجئين في العالم، وعدد السوريين في الأردن يقارب 1.400.000 والكلفة الاقتصادية الكلية على الأردن لأعباء استضافة اللاجئين السوريين للعام 2014 وحده تقارب 3 مليارات دولار أميركي، وفق تقديرات الأمم المتحدة، وتشمل هذه الكلفة الاحتياجات الأساسية للاجئين ومتطلبات تطوير البنية التحتية في المجتمعات المحلية المستضيفة، وهذا الرقم ينمو سنويا منذ اندلاع الأزمة وبدء موجات اللجوء السوري.

كما أن تكلفة استضافة اللاجئين المباشرة وغير المباشرة على الخزينة وفق التقديرات الدولية ولسنة 2014 وحدها، كما تعلمين جمانة، تقارب المليار دولار أميركي، وهذه الكلفة تتكرر سنويا بتزايد، ويتحملها الأردن في شكل ضغوطات إضافية على قطاعات الصحة والتعليم والمياه والبنية التحتية ودعم السلع الأساسية، فضلا عن منافسة الأردنيين على فرص العمل والسكن، وتصاعد أسعار السلع وتنامي الأعباء الأمنية وتكلفة التعاطي معها.

هذه الضغوطات وانعكاساتها لمستها بشكل مباشر خلال تواصلي الدائم مع أهلنا في مختلف المحافظات خاصة في الشمال والشمال الشرقي، حيث يتركز اللجوء السوري وتتعمق آثاره على المجتمعات المحلية.

المطلوب من المجتمع الدولي والأشقاء العرب هو العمل بجدية لتأمين الاحتياجات الإنسانية للشعب السوري من خلال إيصال المساعدات لداخل سورية، وزيادة الدعم للدول والمجتمعات المحلية التي تستضيف اللاجئين السوريين. ونحن مستمرون في دورنا القومي والإنساني ولن نتوانى عنه، لكن لن يتردد الأردن للحظة في اتخاذ أي من الإجراءات الضرورية في حال تهديد أمنه أو استقراره. الخيارات متعددة ومتاحة ولن نخوض في تفاصيلها الآن. لكن أولويتنا الأولى هي حماية حدودنا وشعبنا، وأُطمئن الجميع بأن الأردن على أتم الاستعداد للتعامل مع كل الاحتمالات، ونشامى قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية يقومون بدور تاريخي في حفظ الوطن، وسيشهد التاريخ شهادة حق لهذه السواعد التي تلبي نداء الإنسانية والعروبة وتحمي الوطن بأرواحها كما عهدناها دوماً.

• كما أوضحتم جلالتكم، الشأن السوري متداخل مع العراقي. كيف تقرؤون مسار الأوضاع في العراق، وهل تشعرون بأنّها على طريقها لتشبه الأوضاع في سورية، أم أنّ فرص الحل السياسي والتسويات الداخلية ممكنة، وإذا كان كذلك، فما هي برأيكم كلمة السرّ في الحل السياسي المطلوب، وهل ثمّة مخاطر من تقسيم العراق إلى دويلات؟

– نحن نؤمن تماما بوعي وتماسك الشعب العراقي وقدرته على تجاوز التحديات. ونحن أشد الحريصين على وحدة العراق وتماسك جميع مكونات المجتمع هناك. ونؤكد على أن تغييب أي مكوِّن من مكونات الشعب العراقي يعني تغييب الاستقرار كما يعني نمو التطرف وتهديد وحدة العراق أرضا وشعبا.

العراق كان وسيبقى السند لنا، كما سنبقى السند له عبر التاريخ. والعراق في أمس الحاجة اليوم إلى عملية سياسية وطنية جامعة تشارك فيها كل الأطياف والمكونات دون استثناء لأي طرف، وتؤدي إلى حلول توافقية كما حدث في رئاسة الدولة والبرلمان، ونتمنى أن يحدث في رئاسة الوزراء.

هناك مسؤولية تاريخية على عاتق الحكومة العراقية القادمة، أياً كان رئيسها، بضرورة انتهاج سياسات عادلة تُشرك الجميع في السلطة وفي بناء الدولة، وترسخ شعور جميع العراقيين بأنهم شركاء حقيقيون في صناعة مستقبل العراق، فمصلحة الشعب العراقي في وحدته والمساس في وحدة العراق خطر على الأمة.

وفي إطار توضيح الترابط بين الأزمة السورية والأوضاع في العراق، فإن استمرار الأزمة السورية بدون حل كان السبب في نقل انعكاساتها إلى العراق ممثلة بنمو الحركات المتطرفة وبروزها في غرب العراق، كما سبق أن حذرت. وعليه، فإن استمرار غياب العملية السياسية الجامعة والحكومة الممثلة لجميع مكونات الشعب العراقي سيغذي البيئة الحاضنة للتطرف والإرهاب، وسيعقّد أيضاً فرص حل الأزمة السورية.

وفي سياق ما أوضحناه من حرص على وحدة العراق ومصلحة جميع مكونات المجتمع العراقي، تأتي جميع التحركات الأردنية. وعلى جميع الأطياف في العراق أن يكونوا على ثقة بأن المواقف التي تصدر عن الأردن ستكون في مصلحة كل العراقيين، فنحن للجميع، ومصلحتنا هي في مصلحة الشعب العراقي واستمراره قويا وموحدا. والأردن يدعم جهود العراق في تمتين جبهته الداخلية ونقف بقوة ضد التطرف والحركات والتنظيمات الإرهابية، وسنستمر في جهودنا هذه على مسافة واحدة من جميع مكونات الشعب العراقي الشقيق.

• جلالة الملك، حذرتم مرارا من خطر الحروب الطائفية في المنطقة، ومن الاتجاهات الدينية المتطرفة والتكفيرية. هل المنطقة تذهب اليوم في هذا الاتجاه، وهل سيتحكم المتطرفون من مختلف الطوائف والمذاهب بمصير شعوبها؟

– أخطر الحروب في التاريخ هي الطائفية والمبنية على رفض الآخر لأنها تمزق النسيج الاجتماعي للدول وتؤدي إلى تفكيك مؤسساتها والعودة إلى هويات فرعية هدّامة لا تؤمن بالتعددية والتنوع وقبول الآخر. يجب على عقلاء الأمة والإقليم أن يتوحدوا في موقفهم وألا يسمحوا للمتطرفين بمصادرة مصير المنطقة ومستقبل أجيالها والاستمرار في تعطيل طاقاتها. ومن هنا جاءت مبادراتنا الداعمة للحوار بين الأديان والمذاهب والتي تتبنى قيم الاعتدال والعيش المشترك، وتستند إلى الإسلام الحنيف وتبرز صورته الحقيقية، وذلك انطلاقا من إيماننا كهاشميين بأننا للجميع وعنصر توحيد لا تفتيت. وهذه المبادرات المتمثلة في رسالة عمّان، وكلمة سواء، وأسبوع الوئام العالمي بين الأديان، والمؤتمر العام الأخير لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي، ومؤتمر التحديات التي تواجه المسيحيين العرب، هي أمثلة للقيم التي يؤمن بها الأردن والجهود التي يبذلها استجابة لتحديات توقعناها وحذرنا من تسارعها ولمكافحة فكر ظلامي بفكر مستنير مبني على تراثنا التعددي الذي يعكس صورة الإسلام الحنيف الناصعة.

وهنا نجدد تحذيرنا من خطورة استغلال الدين لأغراض سياسية، وضرورة نبذ خطاب العنف الطائفي والفرقة المذهبية، والنهوض بمجتمعاتنا العربية والإسلامية بالمشاركة لا المغالبة، وتبني قيم الديمقراطية والشورى التي تمثل جوهر الإجماع السياسي في الإسلام.

وأشدد أيضاً هنا على ضرورة حماية جميع الطوائف الدينية ذات الوجود التاريخي والأصيل في منطقتنا، وخاصة الهوية المسيحية العربية التاريخية، وصون حريات العبادة، حتى لا تترسخ النظرة السلبية والانعزال بين أتباع الديانات والمذاهب، محذرين مما نشهده من اضطهاد ديني أعمى، كان آخره الاضطهاد المستمر الذي نشهده الآن ضد المجتمعات المسيحية العربية الأصيلة في الموصل، والإسلام من ذلك براء جملة وتفصيلا.

وهناك مسؤولية تاريخية على جميع دول المنطقة، بمؤسساتها الدينية الرسمية والأهلية والثقافية والتعليمية والإعلامية بالإضافة إلى الحركات الإسلامية المعتدلة الراشدة، لبلورة موقف واضح ضد الحركات المتطرفة والتكفيرية ضمن مسؤوليتها الدينية والتاريخية في محاصرة التطرف وتحصين الشباب بوعي ديني مستنير ومعتدل.

• جلالة الملك، منذ توليكم مقاليد الحكم، واجهتم أزمات وتحديات داخلية وخارجية جسيمة اجتازها الأردن باقتدار. هل يشعر جلالتكم أننا نواجه أخطر الأزمات في هذه الأوقات؟

– اجتاز الأردن أزمات وتحديات صعبة وباقتدار فعلاً، لكن من المهم التوقف عند أسباب ذلك. فوعي المواطن الأردني وإحساسه بالمسؤولية تجاه بناء الوطن والحفاظ على منجزات الاستقرار هي أسباب رئيسية وراء مَنعَة الأردن وصموده. ومن أهم الأسباب أيضاً التحام القيادة والشعب، فأنا وشعبي في بوتقة واحدة، بالإضافة إلى المنظومة الأخلاقية التي ألزمنا أنفسنا بها كأردنيين هاشميين تجاه مواطنينا من عمل موصول من أجل رفعتهم، والنهج القومي العروبي الذي يؤمن به الأردن ويدفعه لنصرة الأشقاء. جميع هذه الأسباب ترفد بناء الشخصية الوطنية الأردنية الحريصة على صون استقرار الأردن ومنجزاته والقيام بواجبه الأخلاقي تجاه أشقائه وجيرانه.

التحديات تحيط بالأردن تاريخيا، وقَدَرُنا أن نواجهها ونجتازها، وقد مرّت علينا ظروف أصعب من التي نواجهها اليوم، فالأردن أقوى بكثير مما يعتقده البعض، وأنا مطمئن على استقرار الأردن ومَنعَته، وقدرتنا على تحويل التحديات إلى فرص، وذلك عن طريق التعامل معها بوعي وهدوء وبروح وطنية مسؤولة. ومؤسساتنا تعمل ليلا ونهارا لتطوير خطط لمواجهة سائر التحديات.

ولنتذكر جميعاً بأن مَنعَة الأردن واستقراره وحضوره الدولي ليست وليدة الصدفة، بل نتاج عقود من التضحيات والعمل، ارتكزنا فيها إلى قيم الاعتدال والانفتاح واحترام الإنسانية وبناء قناعة حقيقية لدى المواطنين بأنهم شركاء في المسيرة. وهذا ما مكننا من التأثير الفاعل في المنابر الدولية كشريك دولي إيجابي في بناء السلام ومد جسور الحوار، وهو ما جعلنا أيضا واحة أمن واستقرار يقصدها من يعاني الظلم وينشد الأمن والكرامة.

• جلالة الملك، يساور الأردنيين القلق من التأثيرات المحتملة للتطورات من حولنا. برأي جلالتكم، ما الذي ينبغي على مؤسسات الدولة والمجتمع أن تفعله لسد الثغرات في جبهتنا الداخلية، لتكون أكثر قوة وتماسكا في مواجهة المخاطر المحدقة بدول المنطقة؟

– ما وصفتُه للتو من تجارب جبلت الشخصية الوطنية الأردنية على صون الاستقرار وحماية المنجزات تشكل أيضاً إرثا وطنياً ومخزونا من العلاقة الإيجابية بين القيادة والشعب ومختلف المؤسسات الوطنية، ما يجعلنا نواجه الأزمات بثقة، لأن الجبهة الداخلية متماسكة ولأن الكل يعي مصالح الأردن وطاقاته في التعامل مع التعقيدات الإقليمية من حولنا، ويبقى أن نستمر في البناء على ذلك، وقد قطع الأردن فعلاً شوطاً كبيرا في هذا الاتجاه، عبر تسريع التحول الديمقراطي، واتباع نهج إصلاحي تدرجي، يوسّع دائرة المشاركة ويبني شعوراً وطنياً بالشراكة، ويتيح الفرص الاقتصادية العادلة للجميع.

أمّا الاختلاف في الرأي، والتعبير عن هذا الاختلاف فليس ضعفاً في الجبهة الداخلية بل هو تنوع يثرينا. قوتنا تكمن في ترجمة هذا التنوع إلى مشاركة سياسية ومواطنة فاعلة في الحياة العامة، بحيث ننتج قيادات تتولى صناعة القرار عبر المؤسسات الوطنية من برلمان وحكومات وسائر أجهزة الدولة الأخرى، ثم يحاسب المواطنون المسؤولين عبر صناديق الاقتراع.

أدرك تماماً أن هناك آراء تقول بضرورة اللجوء إلى آليات لجان الحوار الوطنية للوقوف على التحديات وتدعيم الجبهة الداخلية. وهنا أريد أن أوضح أننا حريصون على بناء أعلى درجات التوافق الوطني إزاء المفاصل الرئيسية، خاصة الإصلاحية منها. ولكن، من الضروري أن يتم ذلك عبر أدوات المواطنة الفاعلة والنقاش العام وضمن المؤسسات الدستورية ممثلة بمجلس الأمة وعلاقتها بالحكومة. وهذه هي الأدوات الديمقراطية الأصيلة لإدارة النقاش الوطني وبناء التوافق، أمّا الأدوات الموازية من لجان وطنية، فيُلجأ إليها استثناء وبغرض إصلاح وتطوير الأدوات الأصيلة، وقد نجح الأردن في تحقيق ذلك وتجاوزه.

أدرك أيضاً وفي إطار متابعتي للهموم الوطنية، بأن البعض يشير إلى الوضع في معان في سياق ضعف الجبهة الداخلية. هذه النظرة غير صحيحة ولا تعرف واقع معان وتاريخها الوطني. لِمَعَان وأهلها إسهامات تاريخية مشرفة في تأسيس الأردن ونهضته وشعورهم الوطني أصيل. يوجد، وللأسف، مجموعة صغيرة ومحدودة من الخارجين على القانون، لا تمثّل أهل معان، وهؤلاء يشوهون اسمها بتجاوزهم على سيادة القانون وهيبة الدولة، التي كان آخرها حادث اغتيال الشهيد الملازم ثاني نارت نفش الأليم، والذي قضى فداء لأمن الوطن.

هؤلاء الخارجون على القانون يعطلون الحياة اليومية لأهل معان، وينتجون ظرفاً أمنياً يؤخّر قدرة الحكومة على الاستجابة في تنفيذ المشاريع الاقتصادية والتنموية التي يطالب بها أهل معان. من الضروري أن ينبذ الرأي العام في معان ممارسات الخارجين على القانون ويعزلهم، بما يدعم جهود الأجهزة الأمنية في فرض سيادة القانون، ويعيد الهدوء الضروري لإطلاق عجلة التنمية والاستثمار حتى نرى عوائدهما على المحافظة.

• جلالة الملك، هل الأوضاع الإقليمية المتدهورة من حولنا حملتكم على التفكير بخطوات الإصلاح قبل اتخاذها؟ ماذا بوسع الأردن أن يفعل؛ أيسرِّع خطى الإصلاح، أم يفكر مليّا في أي خطوة إصلاحية جديدة لتجنب مخاطر غير محسوبة؟

– في كل مرة يوجه لي سؤال مشابه تكون إجابتي واحدة وحاسمة: لن نسمح أن تُتَّخذ الظروف والتحديات الإقليمية الصعبة، سواء كانت العدوان الإسرائيلي على غزة أو النزاع في سورية أو الاضطرابات في العراق أو خطر التطرف، ذريعة للتردد في الإصلاح أو التراجع عنه. هذا ما أؤمن به قولا وفعلاً، ويجب أن تؤمن وسائل الإعلام بتصميمنا على الإصلاح ويجب التوقف عن إذاعة محاولات البحث عن أعذار عن المضي قدما في الإصلاح.

وللتذكير، فإنني في كل مناسبات تواصلي مع أبناء وبنات وطني من شتى الخلفيات والتوجهات أبادر بطرح قضايا الإصلاح والتذكير بأولوياته، وحثهم على التفكير في الخطوات العملية الضرورية التالية، ومن ضمنها القوانين الضرورية لتحفيز الإصلاح.

مسيرة الأردن الإصلاحية تقوم بشكل أساسي على ما يرتئيه الأردنيون من أولويات وأهداف إصلاحية وضمن التدرج الذي يخدم انسياب مسيرتنا. وهنا استذكر أنه عندما كانت بعض دول الربيع العربي تسارع إلى إجراء الانتخابات كمدخل للتحول الديمقراطي، كان الأردن يختط لنفسه نهجا خاصا وتجربة ذاتية تحاكي احتياجاته وتبني على انجازات مؤسساته الديمقراطية، فذهب الأردن إلى تعديل الدستور أولاً، وإصلاح التشريعات السياسية الأساسية، ومن ثم إطلاق مؤسسات ديمقراطية رقابية إضافية، وصولا إلى إجراء انتخابات نيابية وبلدية نزيهة في نفس العام، وتغيير آلية تشكيل الحكومات.

لا أدعي هنا أبداً بأن ما قامت به دول أخرى من إصلاحات كان خطأ وأن ما قام به الأردن كان الصواب، لكنه كان بالفعل الوصفة الإصلاحية الأفضل للأردن. وقد مرت أحداث الإقليم وتداعيات الربيع العربي، وتبين أن النهج الأردني الإصلاحي كان واعياً في تدرجه وتوازنه، ويذهب البعض الآن إلى الاستفادة من دروسنا وتجربتنا الإصلاحية.

وعليه، فإن الأردن ماض في مسيرته الإصلاحية دون تردد والهدف النهائي ومقومات الوصول إليه واضحة. فالهدف هو الوصول إلى حالة متقدمة من الحكومات البرلمانية تتولى فيها الأغلبية النيابية من أحزاب برامجية تشكيل الحكومات، وتتولى الأقلية النيابية الحزبية وذات البرامج أيضاً دور حكومة الظل في الرقابة وتقديم البرامج البديلة. ومقومات هذا التحول هي تطوير العمل النيابي الكتلوي الذي تلقى دفعة إيجابية بتطوير النظام الداخلي لمجلس النواب خلال الفترة الماضية، وضرورة الاستمرار في تطوير أحزاب سياسية وطنية ذات برامج وقواعد شعبية ممتدة، بما يسهم في توسيع مشاركة المواطنين في صنع القرار.

تواجهنا العديد من التحديات وعلينا معالجة أولوياتنا الوطنية الملحّة، ويجب ألا نسمح للأوضاع الإقليمية وتداعياتها بأن تعطل مسيرتنا الإصلاحية السياسية والاقتصادية والقضائية والاجتماعية والإدارية. ويجب ألا نبقى أسرى التذرع بالظروف الإقليمية بل نوجه طاقاتنا نحو ما يعزز مَنعَة الأردن وازدهاره.

• جلالة الملك، ما هي الخطوات الإصلاحية المطلوبة في المستقبل القريب؟

– ما يزال أمامنا الكثير من العمل الإصلاحي، وأولوياتنا الحالية تتركز على الاستمرار في تطوير القوانين الناظمة للحياة السياسية مثل اللامركزية والبلديات والأحزاب والانتخاب، بحيث تتطور هذه التشريعات عبر كل دورة برلمانية وقبل كل دورة انتخابية، بالإضافة إلى ترجمة نهج اللامركزية إلى واقع ملموس، وتطوير أداء الجهاز الإداري والحكومي عبر ثورة بيضاء مستمرة، وإطلاق تشريعات اقتصادية عصرية تمكننا من التفاعل مع التطورات الاقتصادية العالمية، والاستمرار في تنفيذ مخرجات لجنة تعزيز منظومة النزاهة، وتنفيذ مخرجات الخطة الوطنية لحقوق الإنسان وتوصيات المركز الوطني لحقوق الإنسان.

وبالتوازي مع ذلك، يجب الاستمرار في تطوير آليات عمل مجلس النواب من أجل ترسيخ عمل الكتل النيابية على أساس حزبي وبرامجي، وتعزيز ثقافة وممارسات المواطنة الفاعلة التي تعلي من قيم المشاركة السياسية والمساءلة وتكوين آراء موضوعية إزاء القضايا العامة. هذه أبرز العناصر الضرورية لإدامة هذا النموذج الإصلاحي وضمان التداول الديموقراطي للحكومات.

ويبقى التحدي الإصلاحي الأبرز هو التحدي الاقتصادي خاصة الفقر والبطالة، وهو أولوية الأردنيين رغم كل التحديات الإقليمية، وهذه القناعة كونتها عبر تواصلي الدائم والمباشر مع أبناء وبنات شعبي في مختلف المناسبات، وتجربتي الطويلة في العمل في القوات المسلحة، والتي أتاحت لي الاطلاع المباشر والمستمر على تفاصيل حياة مختلف شرائح مجتمعنا والتحديات التي تعيشها. فتوفير الحياة الكريمة لشعبي ولأجيال المستقبل هو شغلي الشاغل.

وهذا ما دفعني لتوجيه الحكومة إلى ضرورة المباشرة في وضع تصوّر مستقبلي واضح للاقتصاد الأردني للسنوات العشر القادمة، مبني على تجاربنا الناجحة ومزايانا التنافسية، ويتضمن الإصلاحات التي يجب على الأردن أن ينفذها في المرحلة القادمة، ويبني أيضاً على الدروس المستفادة من عملية مراجعة وتقييم تجربة التخاصية، بما يحسّن قدرة الأردن على تنفيذ مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص لإقامة مشاريع البنى التحتية والفوقية والخدمية المستقبلية الضرورية. ونعول على الخطة العشرية للتأسيس لمرحلة من التحسن الاقتصادي وعدالة الفرص للجميع. وعلى الحكومة صياغة الخطة التي ستكون بمثابة البوصلة الاقتصادية لمستقبل الأردن، بالشراكة الفاعلة مع القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني والفاعلين الآخرين في مختلف القطاعات والبدء من القواعد الاجتماعية صعوداً إلى أعلى الحلقات التنفيذية، بما يعكس هموم وأولويات المجتمعات المحلية، وبما يحقق أعلى درجات التوافق. وهذا يتطلب بذل جهود مضاعفة من الجميع والاعتماد على الذات.

• جلالة الملك؛ يتخوف مجلس النواب من أن إقرار قانون جديد للانتخاب سيفتح الباب لانتخابات نيابية مبكرة، هل هذا الاحتمال وارد، أم أنّ هذه المخاوف ليست في محلها؟

 

– تحدثت سابقاً عن أهمية النظر إلى التشريعات الناظمة للحياة السياسية كحزمة متكاملة تنجز من قبل مجلس الأمّة وتسير في القنوات الدستورية لإقرارها، بما يضمن إجراء انتخابات مجلس النواب الثامن عشر في موعدها الدستوري. وهذه الحزمة تشمل قوانين الأحزاب، واللامركزية، والانتخابات البلدية، وقانون الانتخاب؛ وجميعها مترابطة وبذات الأهمية، والتطور في مخرجات الدورة الانتخابية القادمة يرتبط بما ينجز من تشريعات وضمان تجسيدها لفرص عادلة في التنافس والتمثيل.

بهذا المعنى، فإن النقاش يجب أن يركز على تحديد أفضل ترتيب وتسلسل زمني لإنجاز هذه القوانين بما يوصلنا إلى إجراء انتخابات المجلس الثامن عشر في موعدها الدستوري الواضح. وأرى أن التسلسل الزمني الأفضل لإنجاز هذه الحزمة من القوانين ينقسم إلى مرحلتين، بحيث تركز المرحلة الأولى على تطوير آليات الحكم المحلي والإدارة المحلية عبر إنجاز قوانين البلديات واللامركزية، وسبب إعطاء الأولوية لهما هو لأن موعد الانتخابات البلدية أقرب من النيابية، وبعد ذلك نمضي إلى المرحلة الثانية التي يتم فيها انجاز قانون الانتخاب.

والمنطق لهذا التسلسل في انجاز قوانين الحكم المحلي أولاً ثم قانون الانتخاب تالياً هو أن التجربة الحالية تؤشّر إلى كبر حجم مجلس النواب، وتحمله مسؤوليات خدمية على حساب الدور الوطني المؤمل منه. ومعالجة ذلك تتم عبر تفعيل اللامركزية، بحيث تركز المجالس المحلية والبلديات على الشؤون الخدمية ويتاح للمجلس النيابي النهوض بمسؤوليات تشريعية ورقابية على مستوى وطني، دون أن تطغى الخدمات المحلية على دور النائب.

إن ترسيخ الاستقرار والتعاون النيابي والحكومي، المدعوم بسلطة قضائية مستقلة، هو عنصر ضروري للتدرج التراكمي في الإصلاح وفق دورات ذات مواعيد دستورية واضحة ومعلومة للجميع، كما هو الحال في كل الديمقراطيات الراسخة. ومن المهم أيضا أن نتذكر ما أنتجته التعديلات الدستورية من ترابط قانوني بين العملية الانتخابية، وإفراز مجلس النواب، وتشكيل الحكومات وفق مشاورات نيابية. فلا ننسى أن الناخبين أوصلوا مجلس النواب إلى القبة، والذي سمَّت غالبيته رئيس الوزراء ومنحت حكومته الثقة على أساس برنامجها. هذه السلسلة الدستورية لا يمكن تعطيلها بانتقائية. هناك مسارات دستورية واضحة لحل مجلس النواب أو استقالة الحكومة، والآثار القانونية التي تنتجها محكومة بنوافذ زمنية معينة لمنع أي فراغ دستوري ولحفظ التوازن بين السلطات. ونحن لسنا بصدد كل ذلك، بل نحن بصدد ترسيخ استقرار العمل النيابي والحكومي بحيث يُكمِل المجلس النيابي مدته لأربع سنوات كاملة طالما تمتع بثقة الشعب، وتستمر الحكومة في مسؤولياتها طالما تمتعت بثقة مجلس النواب، وهذا هو الأساس في الأنظمة الديمقراطية الحديثة.

خلاصة القول أننا نحتكم إلى تقييم العمل بموضوعية وإلى المسارات الدستورية، وليس إلى مزاجات بعض صالونات عمان السياسية وبعض السياسيين الذين يروجون لأنفسهم في وسائل الإعلام من فترة إلى أخرى. والنقاش الوطني يجب أن يتمحور حول أفضل صيغة وتسلسل في إنجاز حزمة التشريعات السياسية، وليس الخوض في إشاعات غير منتجة.

• جلالة الملك، ولي عهدكم سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني سيتخرج من الجامعة خلال عامين. ما الدور الذي ترسمه جلالتك لسموه، وما المسؤوليات التي ستوكلها إليه، بعد أن ينهي دراسته الجامعية؟

– كأي أب أردني أحرص على أن أزرع في أبنائي وبناتي منظومة الأخلاق القائمة على حب الوطن وشعبه والفخر بقيمه الأصيلة، أحس بمنتهى الفخر عندما أرى الحسين يخدم شعبه، وهو، كولي للعهد، منذور لخدمة وطنه وقضاياه كما نذرني جدّه الحسين، رحمه الله، من قبل.

إن مسؤوليتي كملك وكأب، وحبي لأسرتي الأردنية الكبيرة والواحدة، وحرصي على التأسيس لمستقبل واعد نصل إليه بخطى واثقة عبر مؤسسات راسخة، ومن ضمنها مؤسسة العرش، يتطلب مني الحرص والعناية الصادقين في إعداد الحسين لمسؤوليات القيادة، حتى يكون قادراً على خدمة وطنه وشعبه والقيام بمسؤولياته تجاههم، وليغدو الأردن به وبأترابه من أجيال أسرتنا الكبيرة والواحدة أكثر مَنعَة وازدهارا وديموقراطية.

وأنا أتابع مسيرة الحسين، أسعد بأن التزاماته الدراسية لم تبعده أبداً عن حسه بالمسؤولية الوطنية أو متابعة المستجدات، بل حفّزتها وأثرتها بما يراكمها من خبرات معرفية. وأحرص بدوري كل الحرص على أن يكون ولدي وولي عهدي على معرفة عميقة بأسس صناعة القرار، وأن يشارك في اللقاءات المحلية والدولية التي أجريها لتعميق الخبرة والمهارات القيادية التي تؤهله لتولي مسؤولياته المستقبلية.

ومن أبرز مسؤولياته الدستورية توليه منصب نائب الملك متى سنحت له الفرصة في ظل التزاماته الدراسية الحالية. ولدى الحسين اهتمام خاص بقضايا الشباب ورعاية مبادرات العمل التطوعي والإبداع، وحب فطري للعمل الميداني، خاصة العسكري. وبعد إتمامه لدراسته، سيكون التحاقه في صفوف الجيش العربي المصطفوي، إلى جانب إخوانه من حماة الوطن ورفاق السلاح، محطة مهمة لتحصيل التجارب الحياتية في هذه المؤسسة الرائدة والجامعة لكل أطياف المجتمع، والتي مثلت بالنسبة لي مدرسة حياة تزخر بقيم البطولة والإيثار والعطاء.

كأب وكقائد أرى في الحسين قائداً هاشمياً، يعي المسؤوليات التاريخية والتطور الحتمي لدور الملكية في استشراف المستقبل، ولن يحيد عن الدور التاريخي للملكية الهاشمية كصمام أمان لاستقرار الوطن، وعنصر موحد لكل مكوناته، وقوة دافعةً لمواصلة الإصلاح والبناء وصون العدالة والتعددية والحريات وتعميق نهج الديمقراطية، والسهر على أمن الوطن والذود عنه.

• شكراً جزيلا جلالة الملك على هذا الحديث الشامل.

– عفواً، والشكر لكم على هذا الحوار، وأبارك لكم، أسرة الغد، مرور عشر سنوات على مسيرتكم، متمنيا لكم وللأسرة الإعلامية الأردنية المزيد من التقدم على طريق العمل الإعلامي الوطني، والارتقاء بمستوى العمل الإعلامي نحو مزيد من المهنية والمصداقية والموضوعية والمسؤولية الإعلامية والأخلاقية، وبما يوازي الانفتاح في مستوى الحريات، ويستحقه أردننا الغالي.

قد يعجبك ايضا