الربيحات يكتب: بين الحرة والحماد
حصادنيوز- صبري الربيحات _في الثمانينيات من القرن الماضي كان للاردن ديناميكية عالية وكان في البلاد صخب حميد ..فبالرغم من الهزات التي تعرضت لها البلاد وتزعزع قيمة الدينار وحدوث هبة نيسان الا ان ايمان الاردني لم يتزعزع بقدرة البلاد على تجاوز كل المحن فقد كان لنا رصيد كبير لدى اشقاءنا العرب كانوا يحفظون لنا شيء من الجميل.. في الداخل كان الناس يختلفون مع بعض السياسات التي تنتهجها الدولة لكنهم لا يختلفون عليها وعلى شرعيتها وقدرة القيادة على ابتكار الحلول وتجاوز الازمات كان الناس يحبون بلدهم ويثقون بالقيادة ولا يساورهم الشك بقدرتها على تجاوز المحن والملمات. كان لحكمة الملك الراحل ودبلوماسيته العالية ونفاذ بصيرته تقدير كبير حتى بين خصومه .فعلى ارض عمان عقد مؤتمر الوفاق والاتفاق العربي وتأسس مجلس التعاون العربي الذي شاركت فيه مصر واليمن مع الاردن والعراق. وفي تلك الحقبة جرت مراجعة علاقات الدولة مع منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية فاصبح المجلس الوطني الفلسطيني يعقد اجتماعاته ويدير مكتبه الدائم على الارض الاردنية . لم يتردد الاردن في اتخاذ كل الخطوات التي تدعم مطالب المنظمة لبلورة دورها في تجسيد شعارها القائل بانها :- “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” فاتخذ الاردن قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية وبدأ النظام السياسي باصلاحات هادئة وسلسلة كان أبرزها انفتاح النظام السياسي على الشباب وتجديد او تطوير قاعدة النخب السياسية . خلال تلك الفترة ظهرت الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اعتبرت انتفاضة للشباب وتوقفت الحرب العراقية الإيرانية وتراجعت قيمة الدينار الاردني واختلت العلاقات العراقية الخليجية وظهر منسوب عال للتوتر بين العراق الخارج من المعركة مع ايران .تلك المعركة التي باركها العرب والغرب واعتبرها الجميع دفاعا عن البوابة الشرقية للأمة. على خلفية كل هذه التحولات جاء رمضان في نيسان عام ١٩٨٩ واشتكى الناس من ارتفاع الأسعار وظهر تهديد للسواقين وانطلقت شرارة لانتفاضة شعبية من مدينة معان ما لبثت ان انتقلت الى مدن الطفيلة والكرك وبعض البلدات قبل ان يقطع جلالة المرحوم الملك حسين زيارته الخارجية ويعود للبلاد فيقيل الحكومة ويتخذ سلسلة من القرارات التي احتوت الموقف وخفضت منسوب التوتر ومهدت لاصلاحات جديدة جعلت من الاردن نموذجا في الانسجام والصلابة ووحدة الموقف ومكنت قيادته من اتخاذ مواقف وطنية مستقلة و جريئة وصادقة شكلت منعطفا تاريخيا في علاقة الاردن بمحيطه وفي العالم و لا يزال العالم يذكرها. الانتخابات الحرة والنزيهة التي امر باجراءها الملك عام ١٩٨٩ كانت الومضة المضيئة والأهم في تاريخ الديمقراطية الاردنية وهي النقطة المرجعية التي يمكن العودة لها كلما اردنا تعريف ما نقصده بالانتخابات الحرة النزيهة التي كشفت مغرفتها عن ما في طنجرة الاردن.. ولا اظن ان في تاريخنا ولا تاريخ انتخاباتنا ومجالسنا مرحلة كتلك التي عشناها بين الأعوام ١٩٨٩ وحتى نهاية عهد ذلك المجلس. اسوق هذه المقدمة للحديث عن موضوع هذا المقال ” بين الحره والحماد” . فمن لا يعرف فإن اهالينا من بدو البادية الشمالية الشرقية يستخدمون هذه المفردات في معظم احاديثهم للتعبير عن طبيعة المكان وتنوعها ودلالات لتفصيلات لا يعرفها من لم يسكن ديارهم ويجوب المراعي شاسعة المساحات او يواجه موجات الغبار التي تحملها هبات وزوابع الهضبة الممتدة عبر حدود الدول المجاورة . فهي امتداد لتلك الصحراء المترامية من شمال شرق الجزيرة مرورا بغرب العراق وجنوب سورية وتغطي معظم مساحات بادية الاردن الشمالية الشرقية الواقعة ضمن حدود لواء البادية الشرقية. في مفارقة الحره والحماد التي يستخدمها ابناء البادية إشارة الى الفرق بين المنطقة الوعرة المكسوة بالحجارة البازلتية السوداء ” الحره ” والأخرى السهلية المنبسطة ذات التربة الطينية الصلصالية قليلة النفاذ والصالحة للزراعة ” الحماد ” وتنقسم اراضي البادية الشمالية في الاردن الى قسمين اراضي الحره وأراضي الحماد. في الثاني من آب عام ١٩٩٠ كنت امضي صباح ذلك اليوم في مطعم هاشم بصحبة صديقي المرحوم الدكتور محمد حسن الخبير في صندوق الملكة علياء انذاك. كنا نتناول فطورا وننتظر موعد قدوم طائرة من أوروبا لنستقبل طفلة عائدة من رحلة تعليمية في أوروبا ستصل طائرتها عند السادسة …كانا والداها في اجازة وكلفاني بان استقبلها ريثما يعودان في مساء ذاك اليوم . ونحن نتحفز للمغادرة سمعنا بخبر اجتياح القوات العراقية للكويت واحتلالها وخروج عائلة الامير واستمعنا بعدها لبيانات الناطق الرسمي العراقي واوامر القيادة العراقية وعشنا لحظات من الصدمة والاستغراب ومشاعر كثيرة مختلطة . كنت في تلك الأيام ضابطا في قوة الامن العام برتبة رائد مضى على عودتي من الولايات المتحدة ثلاثة اعوام تنقلت فيها بين اربع وحدات شرطية ليستقر بي الامر في اكاديمية الشرطة مدربا ولاشغل موقع رئيس دائرة المناهج والتدريب…كان التدريب ممتعا وكنت امضي فائض الوقت في القراءة وعقد الدورات لمؤسسات عديدة احتاجت الى فتح نوافذ لها على علوم الشرطة والاجتماع . ما هي إلا ايام ومع زيادة اعداد العائدين من الكويت عبر الحدود العراقية جرى تكليفي للالتحاق بقوات البادية الاردنية التي اقامت غرفة عمليات في مركز قوات البادية هناك وتولت الادارة والاشراف للمخيمات التي تأوي العائدين . كانت هناك مشكلة في التواصل بين ادارة المخيمات والعائدين وبين الصحافة العالمية التي تجاوز اعداد مندوبيها المئات . فنسبة عالية من العائدين كانوا من سيرلانكا والفلبين والباكستان والهند وبنغلادش وجنسيات آسيوية اخرى ومعظمهم لا يعرف العربية . خلال أيام نصبت السلطات الاردنية ثلاثة مخيمات كبرى في المنطقة الواقعة شرق الرويشد وعلى بعد كيلومتر قليلة من حدود الكرامة .. كانت اعداد المقيمين فيها تربو على ال٢٠٠ الف عائد رجال ونساء وكانوا يعانون من الخوف والقلق والاجهاد والمرض. بعض هؤلاء فقد مدخراته والبعض لا يعرف شيء عن اقاربه الذين تشردوا كانوا بحاجة الى تواصل وبعث للطمأنينة وتعريف بما يجري كانت تلك مهمتي وكان عليي ان اتواصل معهم واتواصل مع البعثات القادمة للمخيمات وارافق السياسين والاعلاميين وكبار الضيوف وشرح الإجراءات وتلقي الشكاوي وتبديد المخاوف. في منطقة الحماد كانت المخيمات وفيها تعرفت على طبيعة هذه الهضبة الرائعة التي توهمك بانها صحراء لكنها سطح يرتفع عن سطح البحر مئات الأمتار طقسها جاف لطيف وليلها اجمل من اي منطقة عرفتها . كنا نكتفي بساعات قليلة من النوم ونصحو والشمس على ميعاد او قبل صحيانها بقليل كان في الماء بعض الملوحة وفي الرفقة انس وونس كنت امضي المساء بصحبة ثلاثة من الاصدقاء رحل منهم عن الدنيا اثنان هما الصديق المرحوم المقدم محمد السخني مدير مركز المخابرات العامة في الرويشد الذي قضى في حادث سير أثناء أداء الواجب هناك والأخ مدير الجمرك يسار الخزاعي الذي كان مثالا للوجه الاردني الطيب البشوش كيف لا وهو ابن الشيخ راشد الخزاعي احد أبرز الرجالات في تاريخ الاردن .. الرفيق الاخر اطال الله في عمره كان المقدم سالم الزوايدة ابن وادي رم ضابط الاستخبارات العسكرية الذي أصبح نائبا عن بدو الجنوب في مطلع الألفية.. ومن وقت لاخر كنا نلتقي مدير الناحية الشيخ الدمث الكريم اكثم المجالي. الحب الذي تملكني للبادية الاردنية والتقدير العميق لأهلها وكفاحهم اسرني وزاد فتنتي بكل مايتعلق بالمكان ..لقد امضيت اجمل شهور خدمتي العامة في اجهزة الدولة في الرويشد وشعرت اني خدمت بلدي وجهازي ونفسي والإنسانية في تلك الأيام . لقد فتنت بتل الرماح وجبل قعيس ومقاعس ورأس العبد…وكنت اتوقف عند الواحة في الأزرق واتأمل تعرجات الطريق الواصل بين الصفاوي والرويشد وانظر الى سحر القيعان التي يتشكل على سطحها السراب الخلاب. لقد دأبت على توضيح ما تقوم به الاردن للصحافة العالمية حيث كنت التقي مندوبيها كل صباح لوضعهم في صورة ما حدث خلال الساعات الماضية وحاولت ان افسر بعض اللبس الذي كان يحصل بقصد او دون قصد وتعرفت على امكانات الاردنين وقدراتهم وأنواع الرجال وخصالهم وطفت في ارجاء جزء جميل من الوطن الاجمل وخالطت ابناء العشائر المتنوعة في قوة البادية … كنت استمتع بالنظر الى الافق وامتداده ومداه قبل بزوغ الشمس وكنت استمع الى القصص التي رواها البعض عن خصوبة الحماد في الأيام الغابرة وحقول الخزاما والحندقوق والاقحوان. في الرويشد كان الطعام لذيذا حد المتعة وكان المطعم التركي خارج حدود الوصف في الخبرة والاتقان لإعداد الكبسة وأخواتها…كان صاحبه يتفنن في تقديم اطيب والذ الأطباق وكانت البادية وروحها قد تغلغلت الى أرواح ونفوس كل الرجال الذين زاملتهم . في الأيام التي تلت رحلة الخدمة في الرويشد كلفتني مديرية الامن العام ان ارافق فريق الCNN الذي جاء الى الاردن في مهمة للتحقق من مدى التزام الاردن بشروط المقاطعة المفروضة على العراق وقد بدأنا رحلة التتبع من العقبة لعدد من الشاحنات متفقدين الحمولة والترصيص وكل الإجراءات المطلوبة وقائيا وسرنا في رحلة زادت على العشر ساعات اوقفتنا خلالها دزينة من الدوريات وتناولنا طعام الغداء في منطقة الموقر بضيافة النقدم ظاهر خطار ولم يجد الفريق ما يدعو للاشتباه بمخالفة ليستخلص الفريق الأممي والتلفزيوني ان من الصعب أن لا ينفذ الاردن ما يلتزم به. |