المصري يكشف تفاصيل غير معلنة عن تشكيله “لأول حكومة برلمانية”
حصاد نيوز – يكشف رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري في حلقة اليوم من سلسلة حلقات “سياسي يتذكر”، تفاصيل تحول موقف الأردن الرسمي بعد حرب الخليج الثانية.
كما يكشف تفاصيل مهمة حول الرسالة الشفوية التي نقلها من العاهل المغربي جلالة الملك الحسن الثاني إلى الراحل جلالة الملك الحسين بن طلال خلال زيارة الأخير لباريس ولقائه الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران.
وكان المصري قد تحدث في حلقة أمس من سلسلة حلقات “سياسي يتذكر” حول ذكرياته الأولى في مجلس النواب الحادي عشر، وكيف بدأت أزمة العراق في حينه، بالإضافة إلى بعض التفاصيل عن سياسة حكومة مضر بدران في تلك الأحداث، والزيارة السرية التي قام بها بدران وقتها إلى العاصمة العراقية بغداد.
كما أرخ المصري للحظة انقطاع الاتصالات واللقاءات الشخصية بين الزعيمين الراحلين الملك الحسين والرئيس العراقي صدام حسين.
واليوم يستزيد المصري في نشر ذكرياته السياسية ويوثق لأول مرة اللحظات الأولى التي جمعته مع الراحل الحسين ورئيس ديوانه في حينه سمو الأمير زيد بن شاكر، وكيف تم تكليفه بتشكيل الحكومة قبل استقالة حكومة بدران بثلاثة أسابيع.
ويكشف أيضاً تفاصيل تشكيل حكومته، ويؤكد أنها أول حكومة برلمانية تشكلت بالمعنى الصحيح، وذلك بعد قرار استئناف الحياة الديمقراطية.
كما يؤرخ المصري، لكن من دون أن يستزيد في شرح موقفه الشخصي، أولى لحظات توتر العلاقات بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين من خلال كتاب التكليف السامي لحكومته والذي احتوى على نقد لاذع لـ”الإخوان”، بعد تفردهم وسيطرتهم بقرارات وزارتي التربية والتعليم والأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية إبان تسلمهم لهاتين الوزارتين في حكومة بدران.
• بعد أن وصلنا الى ضرب العراق في 1991، وموقف حكومة بدران من تلك الأزمة، وتجاوز أزمة الشارع الملتهب، بقيت أزمتنا قائمة مع الدول العربية ودول الغرب والولايات المتحدة، ثم جاءت دعوة الرئيس الأميركي جورج بوش لمبادرته في عقد مؤتمر سلام بداية للانفراج الأردني وعودة انفتاحه على محيطه ودول الإقليم ودول العالم الغربي؟
-في نهاية آذار (مارس) العام 1991، وبعدما أعلن بوش عن مبادرته للسلام قمت بزيارة إلى دول المغرب العربي كوزير للخارجية في حكومة بدران، ابتداء من ليبيا، إلى أن وصلت إلى المملكة المغربية، وقابلت الملك الحسن الثاني في قصره بالصخيرات، وقد كان معنا الدكتور عبد اللطيف الفلالي وزير الخارجية، وشرحت له خلال ذلك اللقاء الوضع الأردني.
ورد عليّ الملك الحسن بأن حمّلني رسالة إلى (ابن عمه) الملك الحسين، وقال: “إن الموقف الأردني الداعي للمؤتمر الدولي وإلى الحل العربي للموضوع العراقي لن يوصلانا إلى شيء، فقواعد اللعبة بعد احتلال العراق للكويت تغيرت، وعلينا أن نركب القطار في المحطة الحالية وإلا فإنه سيسير بدوننا”.
وتابع الملك الحسن رسالته الشفوية للراحل الحسين وأخبرني بأن الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران يتوقع من الحسين الذي سيقابله بباريس في اليوم التالي؛ أن يبلغه بالموقف الأردني الجديد، وقال بأن الولايات المتحدة تترقب هذا الاجتماع وما سيسفر عنه من قرار أردني.
بعد أن أنهى الملك الحسن رسالته؛ شعرت فورا بأهمية كلامه وفهمت معناه بدقة، وتركت الرباط في نفس اليوم، متوجها إلى باريس حيث كان الملك الحسين ينزل في قصر الضيافة، جوار قصر الإليزيه، وقد كان الحسين قد وصل قبلي بساعات، ذهبت لمقابلته مباشرة، وابلغته برسالة (ابن عمه)، وقد كان برفقة الملك الحسين، الأمير زيد بن شاكر يومها.
كانت عينا الحسين تلمعان عندما استكملت الرسالة، وكان واضحا بأن حواسه كلها تحركت وانه أصبح على وشك اتخاذ قرار مهم.
في ذلك اللقاء كان سفيرنا في باريس عواد الخالدي موجودا، وقد نقل إلينا نحن المجتمعين صورة قريبة للرأي الفرنسي في موضوع الأحداث، مباشرة استدعى الحسين رئيس التشريفات فواز ابوتايه، وطلب منه أن يُبلغ الإليزيه بحضور وزير الخارجية الأردني للقاء الذي سيجمع الحسين بميتران.
في اليوم التالي رافقت الملك في زيارته إلى الإليزيه، وكان مع ميتران وزير خارجيته رونالد دوما، وكان ميتران يتميز بهدوئه وكلامه القليل، كما أنه لا يتحدث غير الفرنسية، وبعد تبادل المعلومات والتقديرات حول الأوضاع في المنطقة، أعلن الملك للرئيس الفرنسي بأن الوضع يستدعي مراجعة المواقف والآثار التي ترتبت على الأوضاع السابقة، كما أبلغ الحسين ميتران بأنه ربما هناك ضرورة للتعامل مع النزاع العربي الإسرائيلي، ويحتاج هذا الملف إلى إعادة النظر فيه، وذلك بسبب موازين القوى التي تغيرت، وبالتالي فإن الأردن سوف يتعامل إيجابيا مع المقترحات والجهد الأميركي بهذا الشأن.
مباشرة لاحظت على الرئيس الفرنسي بأن أساريره قد انفرجت، وتم نقل الرسالة إلى واشنطن عبر فرنسا وبشكل سريع، ومن تلك الزيارة بدأ التعامل الدبلوماسي بين الأردن والولايات المتحدة والدول الغربية يعود من جديد.
كما نتج عن ذلك اللقاء أن وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر أعلن رغبته في لقاء وزير الخارجية الأردني في جنيف، وتم ذلك اللقاء، حيث أكدنا على ضرورة أن تسير أمور التحضيرات بشكل سلس ومنفتح، وقد كان معي في اللقاء سفيرنا في الأمم المتحدة فواز شرف، والمدير الخاص لمكتب وزير الخارجية في ذلك الوقت؛ عبد الإله الخطيب.
• ومن هناك عاد الأردن لعلاقته مع العالم؟
– هنا لي ملاحظة يجب أن أوضحها، فقد أمضينا أعواما طويلة نحاول حشد الدعم الدولي لعقد مؤتمر دولي، يتكون من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن والأمم المتحدة، ومندوب عن دول عدم الانحياز، حتى نعطي القضية الفلسطينية ثقلها ونؤكد على ضرورة الإسراع في الحل العادل والشامل.
وقد كانت فكرة المؤتمر الدولي مرفوضة من قبل الولايات المتحدة منذ البداية، ونتيجة كلام ملك المغرب، وموقف الرئيس الفرنسي ميتران ظهر لنا بأن الولايات المتحدة عطلت انعقاد المؤتمر عن قصد، لأنها لا تقبل بالتنازل عن سيطرتها على مفاتيح حل القضية الفلسطينية والشرق الأوسط، وما يترتب على هذا التنازل من قرارات مصيرية تتعلق بإسرائيل، وقد تضر بمصالحها، فهم يريدون لأنفسهم السيطرة على هذا الملف، وقد كان واضحا بأن الصيغة الجديدة لمؤتمر مدريد التي تم الوصول لها في وقت لاحق كانت تؤكد ذلك.
ولذلك لا استطيع أن أفصل التاريخ والواقع عن بعضهما، فما يقوم به وزير خارجية أميركا اليوم جون كيري من جهود، أعتقد أنها تؤدي نفس الدور والنتيجة، فالمرجعية في موضوع الشرق الأوسط والمسار الفلسطيني الإسرائيلي هي مرجعية أميركية وليست الشرعية الدولية، وأعتقد أن هذا الهدف الأميركي بدأ منذ لحظة رفضهم لفكرة دعوة الأردن لعقد المؤتمر الدولي للسلام في نهاية السبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي.
ولعل هذا هو السبب الذي جعل الاتحاد السوفياتي ودول الصمود والتصدي العربية (السودان واليمن وليبيا وسورية) تعارض بشدة موضوع الاتفاق الأردني الفلسطيني، الذي جرى خلال العام 1985، حيث إن الاتحاد السوفياتي كان يظن ان الأردن صديق الغرب والولايات المتحدة، يريد أن يسحب الورقة الفلسطينية من يدهم أو يبعدها لصالح الولايات المتحدة.
بالعودة لموضوعنا؛ فقد تكررت زيارات بيكر إلى المنطقة والأردن، وبدأ يعد لعقد مؤتمر، سمي فيما بعد مؤتمر مدريد، وكان بيكر يعد لهذا المؤتمر وبنفس الوقت كان يضغط علينا لتشديد الحصار على العراق، وتطبيق قرارات مجلس الأمن المتعددة بهذا الشأن، وقد كان بيكر يستخدم ورقة العراق ومقاطعتها بشكل غير مباشر ليحرجنا في موضوع مدريد والتسوية السياسية.
• لم تستمر حكومة بدران طويلا، وفعلا كما قال لك الوزير ابراهيم عز الدين، فقد استقالت حكومته بعد ستة أشهر من التعديل؟
– لقد عرفت فيما بعد، بأن هناك اتفاقا بين الراحل الحسين وبدران على موعد استقالة الحكومة، وبعد تصريحات مضر تحت قبة مجلس النواب حول العراق صار موضوع التغيير أوضح وكان مطلوبا.
استقالت الحكومة في 19 حزيران (يونيو) 1991، وقد كنت أعرف بأني سأكلف بتشكيل الحكومة قبل نحو ثلاثة أسابيع من تقديم حكومة بدران استقالتها، ففي أحد الأيام طلبني زيد بن شاكر على الهاتف، وكان رئيسا للديوان الملكي، وقال لي إن لم تكن لدي ارتباطات مهمة، فيمكنني الانضمام له لتناول طعام الغداء مع الراحل الحسين في قصر الندوة.
شعرت بشيء غريب في الدعوة، كما شعرت بأن الدعوة تحمل في طياتها مفاجأة من عيار مختلف.
وصلنا أنا وابو شاكر لقصر الندوة، وجلسنا على طاولة الغداء، وبدأ الحديث بأمور الوضع الداخلي والبرلمان وقوة جماعة الإخوان المسلمين، كما ذهبنا في التحليل باتجاه الفترة السياسية القادمة وجهود الولايات المتحدة ووزير خارجيتها جيمس بيكر، وقبل انتهاء اللقاء بنحو عشر دقائق، ابتسم الملك تلك الابتسامة الساحرة، وقال لي: هذه الأمور كلها ستكون “برأسك”.
فأجبته بكلمة: (إيش)، فرد الحسين بالقول: برأسك وهي مسؤوليتك.
فسألته عن معنى ذلك؟، فقال سيتم تكليفك بتشكيل الحكومة، فقلت له بأنه فاجأني، وبأن قراره قد لا يكون قرارا صائبا.
وأوضحت له بأن الوضع حرج، وأنه إذا تم اختياري، فإن ذلك القرار سيكون مثيرا للجدل، ونصحته بمراجعة قراره و”توزين” الأمور جيدا.
فرد الحسين مباشرة علي: “أنا عارف شو بعمل”، فخرجت مع ابو شاكر، وركبنا السيارة، وسألته عن خلفية قرار الحسين، فقال ابو شاكر: “لا تقلق وسندعمك”، لكني طالبت ابو شاكر بأن يوضح موقفي للراحل الحسين، فإذا قبلت وخضعت للقرار، لكن يجب أن يكون هناك اتفاق على برنامج عمل الحكومة.
طبعا، بعد ذلك الغداء العاصف، لم يحدد الملك الحسين موعدا للتكليف بتشكيل الحكومة، وجلست مع الراحل فيما بعد، وقلت له بأن موضوعي الرئيسي هو إلغاء الأحكام العرفية بشكل نهائي، وكان الموضوع الثاني طلب مشاركة الاخوان المسلمين في الحكومة، وإلغاء القيود الكثيرة المفروضة على العمل السياسي، وحرية الرأي والتعبير، ولم يكن هناك أي خلاف على ذلك، وبدأت وحدي أختار الفريق الوزاري.
وبالفعل اخترت وزرائي بكل دقة، وكانت حكومة برلمانية، وممثلة لكافة المحافظات ومعظم الكتل النيابية.
وكنت جادا في ادخال الاخوان في الحكومة، لكن بذهني أن الوزارات التي حصلوا عليها في حكومة بدران لن تكون متوفرة لهم في حكومتي، خصوصا وزارة التربية والتعليم.
• اذا هي حكومة برلمانية، فقد كنت أول نائب يُكلف بتشكيل الحكومة بعد عودة الحياة الديمقراطية، لكن ألا تعتقد بأن عدم التدخل في اختيار وزرائك أضرك ولم ينفعك؟
-بكل صدق، لم يتدخل أحد في اختيار الأسماء، وكان توجهي الرئيسي هو اختيار وجوه نيابية وغير نيابية، ذات مسار ديمقراطي بالدرجة الأولى، وإذا استعرضت أسماء الوزراء تجد بأن هذه الصفة الرئيسية للحكومة، حتى أن بعض السياسيين والمسؤولين وصفوها بأنها يسارية.
ولا أنكر بأن بعض الوزراء أجبروني على ممارسة الضغوط الشخصية عليهم، لكي يوافقوا على المشاركة في الحكومة.
وأعلنت عن تكليفي بتشكيل الحكومة، من داخل مجلس النواب، وأبلغت رئيس المجلس الدكتور عبد اللطيف عربيات، وأجريت مشاوراتي في داخل قاعات مجلس النواب، وكشفت لعربيات عن رغبتي بدخول الإسلاميين في حكومتي، كما زرت أحمد اللوزي رئيس مجلس الأعيان، آنذاك.
وبعد ثلاثة أيام من تكليفي وإجراء المشاورات النيابية أعلنت أسماء الفريق الوزاري، وكنت أول نائب يُكلف بتشكيل حكومة برلمانية بالمعنى الصحيح.
• نحاول أن نستزيد حول تشكيل حكومتك، كم وزيرا من النواب كان فيها؟
-11 نائبا، وهم طاهر المصري وعبد الله النسور، عبد الكريم الكباريتي، سعد هايل السرور، عبد الكريم الدغمي، محمد فارس الطراونة، سليم الزعبي، عوني البشير، سمير قعوار، جمال حديثة الخريشا وعبد السلام فريحات، وهم 11 من أصل 25 وزيرا هم كامل أعضاء الفريق الوزاري.
هؤلاء يمثلون بعض الكتل النيابية، باستثناء كتلة الإخوان المسلمين، في حين لم تدخل الكتل النيابية التي تشكلت بعد الانتهاء من المشاورات النيابية، والإعلان عن أسماء الفريق الحكومي؛ سواء من كان منهم نوابا أو من خارج المجلس، فقد كانت الحكومة أعلنت عن فريقها وتقدمت بالبيان الوزاري لمجلس النواب.
لم تحصل أخطاء في تأليف الحكومة، وكانت بتقديري، وتقدير قوى في المجتمع؛ حكومة ذات طابع واضح وتتطلع إلى الإصلاح والتغيير وقد اخترت الفريق الحكومي بشكل مستقل، ولم يتدخل أحد في خياراتي.
بينما كنت أطلع الراحل الحسين على الأسماء ولم يعترض عليها رحمه الله، كما أن اتصالاتي مع الكتل النيابية ورئيسي مجلسي النواب والأعيان عبد اللطيف عربيات وأحمد اللوزي لم تأخذ طابعا شكليا، بل كانت مشاورات جدية، التزمت بالتعامل معها، وبما رشحته من أسماء، وما فرضته من برامج، حتى تنال حكومتي الثقة.
تم اختيار الوزراء من النواب على هذا الأساس، لكن كان هناك بعض الاعتبارات الجغرافية، لكافة مناطق ومدن المملكة، وقد تفهمت الكتل ذلك، وقدمت خيارات من أعضائها لتمثل هذا البعد.
• وما هي أولى المهمات التي قامت بها حكومتك، أو ما هو أول القرارات التي اتخذتها؟
-عقدت الوزارة اجتماعها الأول، وكان أمامنا أن نقرر فيما إذا كنا سنتقدم بطلب الثقة لمجلس النواب في المدة المحددة بشهر حسب الدستور، وهو ما يتطلب استئذان الراحل الحسين بدعوة مجلس النواب للانعقاد في دورة استثنائية، أو أن ننتظر إلى أن تعقد الدورة العادية، ونتقدم بخطاب العرش كبيان وزاري نطلب على أساسه ثقة النواب، وقررنا في ذلك الاجتماع أن نتقدم في البيان الوزاري بأقرب وقت، وكأن الدورة النيابية منعقدة، وفعلا طلبنا من الحسين الدعوة لعقد دورة استثنائية، وهو صاحب الصلاحية الدستورية بالدعوة للاستثنائية، وبجدول أعمال محدد، وفيه بند مناقشة البيان الوزاري، والتصويت على الثقة.
لقد رفضت فكرة التأجيل أو الهروب من تنفيذ استحقاق دستوري مهم، أو المماطلة في الالتزام في تقليد سياسي ديمقراطي، وهو طلب الثقة من النواب بأسرع وقت متاح، فقد كانت أمامنا فرصة الانتظار حتى شهر تشرين الأول (اكتوبر)، لتبدأ الدورة العادية في موعدها الدستوري، ومن حق الملك تأجيلها لمدة شهرين، أي حتى كانون الأول (ديسمبر)، لكني كنت متحمسا لفكرة الإسراع في التقدم بطلب الثقة، خصوصا أن حكومتي وُلدت وسط أجواء من الضجة والصخب، سببها اللغط السياسي، والاتهامات الجاهزة، خصوصا بعد الغمز من قناة اللون السياسي لبعض الوزراء، حتى قيل عنها بأنها حكومة يسارية.
كنا في هذا السياق أمام أول خطوة ديمقراطية واستحقاق دستوري، تعاملنا معه ببالغ الأهمية ومنتهى الحذر، فطريقنا لم يكن سهلا إلى ثقة النواب، وقد عانت حكومتي لاحقا ازمات سياسية.
واجهت حكومتي معارضة صعبة، خصوصا من كتلة الاخوان المسلمين، وبعض أقطاب مجلس النواب كما اعتبر بعض النواب أن الشمال لم يُمثل بالحكومة بالقدر الكافي، وبالشكل الصحيح، ما زاد من الانتقادات للحكومة، على الرغم من محاولتنا تحسين التوزيع الجغرافي فيها، ضمن أقل عدد ممكن من الحقائب الوزارية، التي لم تتجاوز 25.
وعكفنا على كتابة البيان الوزاري، والذي أشرف على صياغته علي سحيمات وخالد الكركي، وجودت السبول ومحمد الحموري.
كنا قد استشعرنا أهمية أن يكون البيان واضحا، وفيه خطوات محددة، وهو ما زاد من مسؤولياتنا، فقد كان كتاب التكليف السامي شاملا ومحدد الأهداف.
لم تكن مهمة التقدم بالبيان إلى النواب والمناقشات النيابية حوله بالأمر السهل، بل جرت محاولات جادة لإسقاط الحكومة مبكرا. وقد تحالفت قوى برلمانية من دون قصد، ونشأت جبهة سياسية ضد الحكومة، كانت تضم بعض نواب الشمال، إضافة لنواب الاخوان المسلمين، لحجب الثقة.
حتى أن الراحل الحسين اضطر للتدخل، فقبل جلسة الثقة، التقى رحمه الله مجموعة من هؤلاء النواب، وشرح لهم اهمية هذه الحكومة، ومعنى تكليفها خلال تلك الفترة الحرجة.
ومع ذلك، كانت جلسة التصويت على الثقة صاخبة، حيث حصلت الحكومة على 47 صوتا من أصل 80 نائبا، كانوا أعضاء المجلس الحادي عشر، وحجب الثقة 33 نائبا.
• لكن لماذا عارضك نواب الإخوان، وأنت كنت قادما على رأس برنامج حكومي إصلاحي؟
-لقد كان العنوان الرئيسي لمعارضتهم، بأن هذه الحكومة هي حكومة مفاوضات مع اسرائيل، وأنها جاءت لكي تحجم دور الإخوان في الحياة السياسية مجددا، وخصوصا بعد ضرب العراق (1991)، والحملة على الإسلام السياسي، وأن حكومتي بشكلها الذي جاءت عليه كرست، باعتقاد الاخوان، هذا الأمر.
وظهر في كتاب التكليف السامي للحكومة ما جعل الإسلاميين يشعرون بذلك.
• الراحل الحسين كان حادا في نقده لهم في كتاب التكليف لك بتشكيل الحكومة، وبالتحديد ركز نقده على إدارتهم لوزارة التربية والتعليم، وعلى طريقة استخدامهم لمنابر المساجد، واستغلال ذلك في الهجوم على كل من يخالفهم سياسيا، هل بدأت الأزمة معهم من تكليفك بتشكيل الحكومة؟
-لا أريد الحسم في مسألة بحجم تاريخ تأزم العلاقة بين مؤسسات في الدولة مع جماعة الإخوان.
لكن ورد في كتاب التكليف لحكومتي ما فيه من غمز واضح ونقد لهم على تفردهم بالقرار، خلال مشاركتهم بحكومة بدران، التي كنت فيها وزيرا للخارجية؛ وجئت بعدها لتشكيل الحكومة، كما يمكن تفسير كلام الحسين في كتاب التكليف بأنه نقد لاذع لاستقوائهم باستخدام منابر المساجد، من أجل تعميم مواقفهم في الشأن المحلي، والتأثير بالموقف السياسي عبر الخطاب الديني والعاطفة والفطرة.
وهذا ما يزال موثقا في الجريدة الرسمية، في عددها 3762 بتاريخ 30 حزيران (يونيو) 1991، وفيها مراسيم تأليف وزارة المصري.
جاء بالصفحة 1008، في الفقرة التاسعة من بند المرتكزات والأهداف بالشأن الداخلي، ما نصه: “لقد وهبنا الله العقل كي نستخدمه، وليميزنا بذلك عن غيرنا من المخلوقات. فتعطيل العقل والاستهانة به، يعني التنكر لهذه النعمة الالهية. إن من أسباب تنامي الفجوة بيننا وبين العالم الأكثر تقدما ورخاء وقوة، والأوفر نفوذا وثروة هو التفاوت في استخدام العقل والفكر في مواجهة المشكلات وحلها.
وعليه، فلابد لبرنامج التطوير التربوي الجاري وضع أسسه الآن، أن يجعل من أهدافه تشجيع أبنائنا على المناقشة والتفكير الموضوعي، وتعليمهم التحليل وزرع القدوة فيهم على بلورة المفاهيم. ولابد أيضا من ايلاء تدريس العلوم كما وكيفا وما يستحقه من اهتمام، اذ إن عالم اليوم هو أيضا عالم العلم والتكنولوجيا. إن بلدا، موارده شحيحة، لا بد أن يركز اهتمامه على تعليم وتدريب وإعداد أبنائه كي يتميزوا، فذلك هو التعويض عن الموارد الطبيعية. إننا بلد لا يمكن أن يملك ترف تعليم تقليدي متخلف عن ركب العصر. إن السياسة التعليمية هي سياسة وطنية، وهي خلاصة توافق المجتمع، فلا يحق لأي كان أن يخرج بها عن مسارها، استنادا إلى اجتهادات شخصية أو عقائدية”.
أما في البند الحادي عشر من ذات الفقرة فقد جاء في كتاب التكليف السامي: “نحن شعب عربي مسلم يعتز برسالته وتراثه ويتمسك بهما، وأخلاقنا العربية الإسلامية تعلمنا المحبة والتواد والتكافل والتآخي، وتحرم علينا زرع الأحقاد وبذر الكراهية والشقاق والتنافر والتدابر، وعليه، فإن منابر التوجيه المختلفة من مساجد ومدارس وصحافة ووسائل اعلام أخرى ينبغي أن تنسجم مع ما أمرنا الله به من مجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومع ما ورثناه من أخلاق عربية أصيلة تعفّ عن الشتيمة والافتراء والإرهاب الفكري والنفسي، وتمتنع عن تحريض الصغار ودفعهم إلى التهلكة بتزيين الانتحار لهم على أنه استشهاد، فهذه والله جريمة لا تُغتفر، وليست من الدين أو المسؤولية أو الخلق في شيء”.
هكذا، وبظني بدأ التوتر في تلك المرحلة مع الإخوان المسلمين، وكان لهذا التوتر ما بعده، خصوصا بعد قانون الانتخاب بصوت واحد، والتطورات الإقليمية، وتباين موقف المؤسسات الرسمية مع الإخوان.