تونس: مهد الربيع العربي ومُلهمة الثورات باتت على شفا مُنحدر لبناني
حصادنيوز-تبدو تونس والمغرب في منافسة على عدد الحقائب الوزارية المخصصة للنساء في تشكيلة الحكومتين الجديدتين. وحرصت وسائل الاعلام القريبة من الدولة العميقة في البلدين على إبراز هذا البعد، مُشيرة إلى وجود عشر وزيرات في الحكومة التونسية، من أصل 25 وزيرا، فيما حازت السيدات في المغرب، على تسع حقائب من أصل 39 وزارة وكتابة دولة. والظاهر أن التونسيين تفوقوا في هذه «المنافسة» بتسمية نجلاء بودن على رأس الحكومة، للمرة الأولى في تاريخ البلد والعالم العربي.
قصقصة أجنحة رئيسة الوزراء
على أن هذا التعيين أتى على خلفية قصقصة أجنحة رئيس الوزراء، بموجب القرارات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد، يوم 22 أيلول/سبتمبر الماضي، والتي علق بمقتضاها أعمال البرلمان واستحوذ على مفاتيح السلطة التنفيذية بالكامل. ولم يكن سعيد يُخفي، منذ صعوده إلى سدة الرئاسة في 2019 وحتى قبل ذلك، إعجابه بالنظام السياسي الأمريكي، حيث لا يوجد رئيس حكومة، بل وزراء فقط، وحيث يجمع الرئيس بين يديه سلطات واسعة.
ولمن لم يفهم، ترأس سعيد الاجتماع الأول لمجلس الوزراء، وهو أمر لم تشهده تونس منذ سنوات بعيدة، كناية على أنه قبض على دواليب الدولة. لا بل هو لم يُخف، في تصريحاته الأخيرة، أن من يتولى رئاسة الحكومة، سيكون معاونا للرئيس، وهو ما جعل حاكم المصرف المركزي مروان العباسي، يعتذر عن عدم تولي رئاسة الحكومة، بالرغم من العروض الملحة من قصر قرطاج.
رسالة إلى الشركاء الغربيين
من الواضح أن التركيز على الحضور النسائي هو رسالة إلى الحلفاء الغربيين، أملا بالتخفيف من الانتقادات التي تتعلق بأوضاع الحريات وحقوق الانسان. ولم تقتصر تلك الانتقادات على تقارير المنظمات غير الحكومية ووسائل الاعلام، بل شملت أيضا مؤسسات رسمية مثل مجلس الشيوخ الأمريكي ومنظمة الفرانكفونية، التي قررت إرجاء قمتها إلى العام المقبل، بعدما كانت مقررة لشهر نوفمبر القادم في جزيرة جربة.
وشكل قرار الارجاء، الذي ساهم فيه رئيس وزراء كندا جوستين ترودو والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، نكسة ديبلوماسية للحكومة، التي كانت تأمل باستقطاب تعاطف دولي يُخفف عنها الضغوط الداخلية والخارجية. وتنبع تلك الضغوط من غياب رؤية للمستقبل، بالإضافة إلى تدهور أوضاع الحريات على نحو غير مسبوق منذ الاطاحة بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في العام 2011.
انتخابات برلمانية مبكرة؟
ولم يُقدم الرئيس سعيد، منذ تجميده أعمال البرلمان ولجوئه إلى سن مراسيم رئاسية، أية خطة للإنقاذ الاقتصادي والسياسي، وفي مقدمها الاستفتاء على دستور جديد، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة في غضون ستة أشهر. لكن عمليات سبر الآراء تُرجح أن يكون الفائز بالمركز الأول، هو حزب بن علي «الحزب الدستوري الحر» بزعامة المحامية عبير موسي غريمة «حركة النهضة» والتي يُعتبر حزبها أكثر الأحزاب اليمينية شعبوية. أما الرئيس سعيد فهو لا يملك قوة سياسية تقف خلفه، إذ يبدو وحيدا وسط التجاذبات القوية بين الأحزاب.
الرئيس… وحيد
بيد أن رؤية الرئيس للنظام السياسي البديل، الذي يسعى إلى إرسائه، لا تختلف عن المشاريع الشعبوية التي اعتمدتها سابقا أنظمة مستبدة، ومنها النظام «الجماهيري» الذي أرساه الزعيم الراحل معمر القذافي، في ليبيا المجاورة، والذي أبدى سعيد في مناسبات عدة، إعجابه به بوصفه أنموذجا لـ»الديمقراطية المباشرة».
وكيفما كانت طبيعة النظام السياسي المأمول، مازال الزمن التونسي مهدورا في المناكفات والصراعات، التي قسمت البلد إلى أنصار الرئيس من جهة وخصومه من جهة ثانية، حتى بات الطرفان يتناوبان على التظاهر في الشارع الرئيسي بالعاصمة، إما للتأييد أو للتنديد.
ملفات أغفلتها رئيسة الحكومة
وتزداد الحاجة إلى خطة سياسية/ اقتصادية بعد خطاب رئيسة الحكومة، الذي لم تتطرق فيه إلى عمق الأزمات الراهنة، ومن بينها تفاقم عجز الموازنة وارتفاع حجم الديون الداخلية والخارجية وإصلاح أوضاع المؤسسات العمومية الخاسرة، وتعديل الميزانين التجاري والغذائي المنخرمين. وقد تضاعف عجز الميزان الغذائي ثلاث مرات في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، بحسب إحصاءات رسمية. أما في المدى القريب فتحتاج تونس، بشكل ملح وعاجل، إلى إيجاد مصادر لتمويل الموازنة التكميلية، ثم موازنة 2022.
لكن مؤسسات التسليف العالمية لن تُقرضها مجددا، ما لم تقدم الحكومة الجديدة خطة للإصلاحات تحظى بالقبول من المؤسسات المانحة، وهي خطة غير موجودة حاليا. كما أن تلك المؤسسات المانحة لا تُقرض من دون الحصول على ضمانات بالسداد من الحكومات الشريكة لتونس، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهي ضمانات يعسُر تحصيلها في ظل عدم الاستقرار السياسي السائد في البلد، طيلة السنوات الأخيرة، وبخاصة بعد 25 تموز/يوليو الماضي. وزاد الطين بللة التخفيض الجديد من تصنيف تونس، والذي وضعها على شفير منحدر لبناني.
حوار مع النقابات؟
من هنا ستُضطر الحكومة الجديدة إلى فتح حوارات مع المنظمات النقابية، لأن إطلاق أية إصلاحات لن ينجح، ما لم يحظ بدعم مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية.
إلا أن حبل الود ما زال مقطوعا بين الرئاسة من جهة والنقابات والأحزاب السياسية، التي وصفها الرئيس سعيد بـ»الشياطين» و»الجراثيم» و»الخونة»… وهو لا يُخفي عداءه للأحزاب، وبخاصة «حركة النهضة» التي يُحملها مسؤولية تدهور الأوضاع واختراق مؤسسات الدولة، مُبررا بذلك الاجراءات التي اتخذها في 25 تموز/يوليو الماضي، والتي وُصفت بالانقلاب. كما أن العلاقات التي كانت متينة بين الرئاسة والقيادات النقابية انقطعت من طرف واحد من دون سبب واضح، وتحولت إلى نوع من التنابذ، يعسُرُ معه إصلاح ذات البين، على الرغم من أن قيادة «الاتحاد العام التونسي للشغل» (وهو أكبر النقابات المهنية) باركت الإعلان عن حكومة بودن، وتوسمت الخير فيها.
لابُد من صندوق النقد
ستكون الحكومة الجديدة مُكرهة على الجلوس إلى ممثلي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتحصيل الموارد المالية اللازمة لغلق موازنة 2021 ووضع موازنة 2022 والتصديق عليها. لكن السؤال هو: من سيقوم بالتصديق طالما أن أعمال البرلمان مُعلقة بلا سقف زمني؟ الأكيد أن الموازنة الجديدة ستحظى بموافقة رئيس الجمهورية، الذي منح الثقة للحكومة يوم أدى أعضاؤها القسم أمامه، قبل أن يتقلدوا مسؤولياتهم. لكن تصديق الرئيس على الموازنة عوض البرلمان إجراء غير دستوري. والأرجح أن هذه الخروق للدستور هي التي عناها الشركاء الأمريكيون والأوروبيون حين حضوا الرئيس سعيد على ضرورة العودة إلى الدستور.
وليس مستبعدا وسط الصعوبات المالية الراهنة أن ترفع النقابات الصوت في وجه الحكومة، جراء ارتفاع الأسعار والركود الاقتصادي، واستطرادا تزايد عدد العاطلين عن العمل، الذي تجاوز نسبة 18 في المئة، وذلك بفعل وباء «كوفيد19». وعليه ستجد رئيسة الحكومة نفسها في مواجهة مع حراك احتجاجي تقوده المعارضة وآخر مطلبي تقوده النقابات.
ملفات أغفلتها الحكومات السابقة
على صعيد المسار القضائي، يبدو أن وزيرة العدل الجديدة تعتزم فتح الملفات التي أغفلتها الحكومات السابقة، وبينها ملف الاغتيالات التي ذهب ضحيتها المعارضان شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وملف التحقيق في العمليات الارهابية التي شهدتها تونس بين 2013 و2015. هذه الخطوة، معطوفة على اعتقال بعض المشتبه في ضلوعهم في شبكات الفساد، ستمنح الرئيس وحكومته شعبية تتجلى عناوينها في عمليات سبر الآراء، التي وضعت سعيد في مقدم الشخصيات السياسية الأكثر شعبية. ويرى الباحث الفرنسي بيار فرموران، الخبير في الشؤون المغاربية، أن الاجراءات الاستثنائية التي لجأ إليها سعيد لاقت تجاوبا لدى قطاعات واسعة من المجتمع، لأنهم كانوا ينتظرون قرارات تضع حدا لعبث أعضاء مجلس النواب. غير أن هذه الشعبية يمكن أن تتآكل وتتبدد إذا ما اندلعت أزمات اجتماعية، أسوة بما حصل على أيام حكومتي حبيب الصيد (2015-2016) ويوسف الشاهد (2016-2019).
شروط صندوق النقد الدولي
واللافت أن الإعلان عن التشكيلة الحكومية لم يتضمن أية إشارة إلى سقف زمني لعملها، ولا يُعرف ما إذا كانت ستستمر إلى حين إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، أم أن مهمتها تقتصر على إخراج البلد من عنق الزجاجة، وتنفيذ برنامج للإصلاحات السياسية والاقتصادية، مثلما يشترط ذلك صندوق النقد الدولي، قبل إقدامه على منح تونس دولارا واحدا.
غير أن التونسيين، الذين ينتظرون الحلول من المؤسسات المالية الدولية، يمكن أن يجدوا مساعدة أهم لدى الجارتين الجزائر وليبيا، على الرغم من المصاعب المالية التي يُجابهها البلدان لأسباب مختلفة، إذ بلغت ديون ليبيا 100 مليار دولار بحسب رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة. ويُشكل العجز الطاقي أحد مصادر الصعوبات الاقتصادية، التي تعاني منها تونس، بسبب النضوب التدريجي لمصادر الطاقة التقليدية وتعثُر خطط اعتماد مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة.
زيادات في الأسعار؟
وزاد ميزان الطاقة تدهورا مع ارتفاع سعر برميل النفط إلى 75 دولارا، بينما وُضعت ميزانية 2021 على أساس سعر مرجعي لا يتجاوز 45 دولارا للبرميل الواحد. ومن هنا ستكون حكومة بودن مضطرة للترفيع من أسعار الوقود، ما سينعكس زيادة عامة في الأسعار، ويتسبب ربما باضطرابات اجتماعية.
في هذا الإطار تشكل دول الجوار منصة إنقاذ لحكومة بودن، بُغية التخفيف من الضغوط المالية، بشراء الوقود بأسعار أدنى من أسعار السوق، بالاضافة لرسوم العبور التي تتقاضاها تونس في مقابل مرور أنبوب الغاز، الذي ينقل الغاز المُسيل من الجزائر إلى إيطاليا عبر المتوسط.
أكثر من ذلك أعلن الرئيس عبد المجيد تبون أنه «متشوق لزيارة تونس قريبا» مؤكدا أن نصف أعضاء الحكومة سيرافقه خلال زيارته لتونس «بُغية التوقيع على اتفاقات في عدة قطاعات». مع ذلك يبقى استقرار البلد متوقفا على مدى التقدم في إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية، تفادتها الحكومات السابقة مخافة كلفتها الاجتماعية، فهل تُقدم عليها الحكومة الحالية، علما أن أي إخفاق في هذا المسار الإصلاحي سيتحمل رئيس الجمهورية كلفته بمفرده، لأنه هو من اختار رئيسة الحكومة ومن عين أعضاءها.
شحة مصادر التمويل
في هذا الإطار حذر المصرف المركزي في أعقاب اجتماع مجلس إدارته، من شحة مصادر التمويل، وحض الحكومة الجديدة على إطلاق رسائل إيجابية للمستثمرين في الداخل والخارج، تقوم على تكريس الشفافية والحوكمة في القطاع العام وتحسين مناخ الأعمال، بدلا من الضبابية السائدة حاليا.
ويمكن القول إن البلد الذي كان مهدا للربيع العربي، وملهما لثورات ديمقراطية سلمية في العالم، فقد كثيرا من بريقه، بعدما تناهش الطامعون جثته، وخيب سياسيوه الآمال التي عُلقت عليهم.