خطبة جمعة ممتازة: “فلتحذروا التاءات المتسلسلة الثلاث”!

20

حصادنيوز-ليث شبيلات -وأعلق مضيفاً عنواناً متمماً للموضوع:
“بين يدي ذكرى ميلاد عظيمين؛ سيدي خلق الله محمد وأخيه عيسى، عليهما أفضل الصلوات وأتم التسليم.
موفقة جدا تلك الخطبة التي قررت بلا جدل أن “التفجير” لا يمكن له أن يحدث ما لم تسبقه “تاءان”؛ تاء التكفير التي لا يولدها هي الأخرى إلا وجود التاء الأولى “التحريم”. وتاء التحريم موجودة بكثرة لدى عوام الناس، وحتى عند من يعتقد أنهم من الخاصة علما ومعرفة. إن لفظة “حرام” ثقيلة الوزن جدا، وتترتب على إطلاقها تبعات مدمرة إن لم توضع في مكانها الصحيح الدقيق، وفي يد ثقاة مجتمعين في مجمع علمي فقهي؛ أي في يد جمهرة من العلماء وليس شخصا واحدا وحسب. هذه المجامع هي وحدها المؤهلة دون غيرها في هذا الزمان، على إصدار فتاوى التحريم. حتى إن كلمة “حرام” دخلت على كلامنا في لغونا اليومي من دون قصد التحريم الشرعي، فنقول لصديقنا مثلا: “يا أخي لماذا فعلت كذا؟ حرام عليك!”.
كان حظنا أن نستقي العلم والمعرفة الدينية من علماء ما قبل انفلات الفتوى من عقالها الذي يربطها من الجموح بانتشار زرافات من الجهلة السطحيين الذين احتقروا علماءنا الكبار فيما سلف من عصور؛ إذ يقولون عن الفقهاء “هم رجال ونحن رجال”، كمن يقول إذا أردنا أن نشبه الموضوع تشبيهاً عصريا كاريكاتوريا: “رونالدو رجل وأنا رجل”. وهي كلمة صحيحة تفضي إلى نتيجة باطلة؛ فأنا مثله آكل وأشرب وأنام، ولدي من العواطف مثل ما عنده. ولكن هل ينسحب ذلك على إقرار أنني ألاعب الكرة بقدمي مثل ما يلاعبها؟
“أبو حنيفة النعمان رجل ونحن رجال”؛ سمعناها كثيرا كثيرا منذ سبعينيات القرن الماضي. وهي كلمات نرى أثرها التدميري في المجتمع، كأثر السلاح النووي على الحياة، بحيث انتقل الدين من رسالة إصلاح الحياة إلى رسالة تدمرها بالتخويف والترهيب والتفجير المادي بعد التفجير المعنوي. كانت شروط قبول فتيا السلف كثيرة جدا، منها أن يكون المفتي حافظا للقرآن، عالما بمناسبات نزول الآيات، عالما بالناسخ والمنسوخ، محدثاً يحفظ مائة ألف حديث بسندها، عالما بعلم “الجرح والتعديل”؛ وهو علم درجة مصداقية ناقلي الحديث، عالما بأنساب الرجال، عالما بفنون اللغة العربية وآدابها وبلاغتها وقواعدها وغير ذلك من علوم . كما يجب أن يكون معروفا بآداب مسلكية دقيقة رفيعة؛ فكانت الفتوى تُرَدّ ممن شوهد يأكل في الشارع أو يتنخم من دون أن يحيد بوجهه عن القبلة، أو ممن استعمل في دعابة له “كذبة بيضاء” كما نقول، حتى لو كان ذلك في المزاح. “هم رجال ونحن رجال” يقولها من يرفعون المنصوب وينصبون المرفوع بكلام لا يمت إلى آداب اللغة وفنونها وأذواقها بشيء! يا للعيب!
لقد تربينا على أرقى قواعد أهل السنة والجماعة قبل أن تنفلت الفتيا ويتلاعب بها كل من يصلي ركعتين، ويطلق الناس عليه حتى يومنا هذا لقب “شيخ”. ونحاول اليوم إنقاذ المقربين منا من أبناء وأحفاد يعيشون في عصر غير عصرنا، امتلأت أجواؤه بسهولة الفتيا، وأسهل ما فيه قلة أدب أن يتكلم من يفهم ومن لا يفهم في شؤون الحلال والحرام. تربينا على قواعد عظيمة أرساها كبار فقهاء أهل السنة والجماعة التاريخيين: “إذا اجتمع مائة سبب للتكفير وسبب لعدم التكفير أخذ بعدم التكفير”، و”من كفر مسلما فقد كفر”، و”أسرعكم للفتوى أسرعكم إلى النار”، و”من أفتى بغير بعلم فليتبوأ مقعده في النار”. وتأدبنا على سيرة الصالحين، كقول الإمام مالك رضي الله عنه: “من قال لا أدري فقد أفتى”؛ وقال لمن احتج عنده: “ماذا أقول لقومي وقد جئتك من مسافة أشهر لأستفتيك في هذه المسائل إذ تجيبني بلا أدري؟ فقال له: “قل لهم إن مالكاً لا يدري””. فالتكفير مثله مثل اللعن محرم. وقد تعلمنا أنه إذا خرجت اللعنة من فم أحد، فإنها إن لم تصب الذي وجهت إليه عادت لتصيب مطلقها، فيبوء بها أحدهما. والمرة الوحيدة التي كنا نسمع علماء ذلك الزمان ينطقون بكلمة كافر، هي عند تكفيرهم وبشدة الذي يكفّر مسلماً. يعني لا نكفر إلا من كفّـر.

وأسهل ما يستسهله الناس في العقود الأخيرة طلب الفتيا من أي شخص عليه بعض مظاهر الدين، مثل لحية ودشداش. كم من مرة يوقفني شخص أو يتصل بي ليسألني عن أمر من أمور الدين فأقول له: “يا أخي، إن سألتني في السياسة والاجتماع أجبتك، فذاك من اختصاصي؛ أما في هذا الأمر، فلا تسأل إلا عالما تثق بعلمه وتقواه. والأفضل والأقوم أن تسأل دار الإفتاء الرسمية حتى تبقى الأمة مجتمعة على نهج واحد”. وإذا أصر على السؤال أقول له: “أنا لا أفتيك، ولكني أقول لك إنني في هذا الأمر أفعل كذا وكذا، ولا أتحمل مسؤولية تقليدك لي”.

أيها الناس، إن هذا العلم أخطر بكثير من أي علوم أخرى، ولا يؤخذ إلا بالصحبة ومن صدور الرجال واتباع أخلاقهم وسيرهم. فإذا كانت قراءتك لكل كتب الهندسة أو الطب لا تؤهلك لأن تكون مهندسا أو طبيبا إلا أن تجالس وتتتلمذ على يد المعلم المختص، أفتكفي قراءة بعض الكتب لمن لا يحسنون حتى اللغة العربية كي يصدروا رأيا لمجرد قراءة حديث مثلاً؟! أيها الناس، إن كل فقيه محدث (في علم الحديث)، والعكس ليس صحيحا؛ فليس كل عالم علامة في الحديث فقيهاً! يقول ابن وهب العالم المحدث الشهير: “لولا مالك لهلكت! لولا مالك لهلكت! لولا مالك لهلكت!”. فماذا نقول نحن الذين ننصب الفاعل ونرفع المفعول؟ يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه، محذرا من الاكتفاء بالقراءة للحصول على المعرفة: “العلم روح تنفخ! لا كتب تنسخ!”. ألم تقرأوا كيف كانوا يقولون إن فلانا “تأدب” وليس تعلم على شيخه في العلم الفلاني؟ أما في اللغة، فإن كان عمر بن الخطاب قد استعان بمن هو أعلم منه في اللغة ليحكم فيمن ادعى أن الحطيئة هجاه بقوله الذي بدا بمظهر المدح “دع المكارم لا ترحل لبغيتها// واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي”، فسأله هل هجاه؟ فأجابه: لقد سلح عليه يا أمير المؤمنين؛ إذ إن الطاعم والكاسي هما اسما مفعول كما هما اسما فاعل؛ فماذا نقول نحن؟

أهل السنة والجماعة الذين نسعى جاهدين إلى تقليد علمائهم، هم أهل السماحة والفضل؛ فاختلافهم عين الرحمة، وكان سيكون نقمة لو أصر كل واحد منهم على أن ما يقوله في المسألة هو حكم الله لا حكم غيره، فيصبح “الناطق الأوحد” باسم الإله والعياذ بالله. كانوا يقولون: “رأينا صوابٌ يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب”. وقد صلى الشافعي الصبح في المسجد الذي فيه مقام أبي حنيفة النعمان ولم يقنت، كما هو مذهبه. وعندما سألوه عن ذلك قال: “لقد استحييت أن أخالف هذا الإمام”! تلكم الآداب التي لا نشم رائحتها اليوم عند مجاميع المصلين العابدين الذين معظمهم، وأنا ربما في كثير من الأمور منهم، قد لبسنا بياض ثياب الدين، وأغفلنا الاستحمام من قاذورات الغفلة والأنانية والكبر والبخل والجبن … إلخ، ومع ذلك نتصدر واجهات الدفاع عن دين نحن غرباء عنه.

ناقشت في السجن أحد المتأثرين بشدة بفكر التكفير؛ فقلت له إنكم تتهموننا معشر أصحاب المشرب الصوفي بأننا، والعياذ بالله، نقول بالحلول والاتحاد، أليس كذلك؟ فقال: بلى! قلت له: أنتم في الحقيقة أهل الحلول والاتحاد! فاستنفر قائلا: كيف تدعي ذلك ونحن لا نتلفظ بأي لفظ يجعلنا موضع مثل هذا الشك؟ قلت له: إن العبرة ليست في الألفاظ فقط! أنتم عمليا أهل حلول واتحاد إذ إن كل من يقول أن حكم الله في هذه المسألة هو كما أفسره أنا، وأن أي تفسير آخر هو تفسير يفضي إلى الكفر، فقد صرح عمليا بلسان الحال لا بلسان القال أن الله -والعياذ بالله- قد حل واتحد فيه، وأن حكمه هو فقط هو حكم الله . فتفهم قولي وبدأ بإعادة تغيير نهجه. وأبديت له كيف أن اختلاف العلماء رحمة وليس عيبا؛ إذ كلما زاد علم أحدهم ازداد تواضعه، فيعرف أن في الحي وفي المجتمع من له رأي آخر.

وفي مسألة أخرى، قلت له: يا أخي سأنتقل من جفائكم لي ولأمثالي إلى جفائكم مع المعاهدين لنا في وطننا الواحد؛ المسيحيون. ألا تعلم أن أول دستور خطي في العالم كتبه رسول الله في صحيفة المدينة المنورة (حمورابي كتب قوانين وليس دستورا؛ إذ إن الدستور هو الناظم للقوانين التي تنبثق عنه)، وأن أكثر من نصف بنود الدستور العظيم ذاك تنظم العلاقة بين المسلمين وبين المعاهدين من أهل الكتاب تنظيما رائعاً لم يرتق إليه أحد لا قبل ولا بعد؟ فقد جعل ولاء المسلم للدولة تحصيلا حاصلا من ضمن الشهادتين اللتين ينطقهما، ولكنه فصل تفصيلا عظيما كيفية ولاء المواطن غير المسلم للدولة التي لا يجبر على النطق بالشهادتين ليحصل حقوقه المتساوية فيها من دون أن يجبر على حمل السلاح فيها إلا دفاعا عنها (حتى لا يُغصب على أمر لا يؤمن به). وكيف أن مخيريق اليهودي الشهم خالف قومه الذين خانوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا دفاعا عن يثرب (مدينة المسلمين المنورة)، فأوصى بماله للنبي العربي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وخرج مقاتلا حتى قتل، فقال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود، ولم يقل إنه من أهل الجنة؛ فتلك مفتاحها ما في القلب من إيمان ولا تفتحها الأفعال لوحدها. ثم ضربت له مثلا فقلت: أنكم تتعاملون مع المسيحيين وكأن ليس بينكم وبينهم عهد، مع أنه أرقى العهود وأعلى الأوسمة؛ فمن منا لا يتمنى أن يكون في ذمة الرسول الأعظم؟ والتي تعني أنه، يا للشرف الرفيع، ممنوع بمنعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: ألا مَن ظلَم معاهَدًا أو انتقصَهُ حقَّهُ أو كلَّفهُ فوق طاقتِهِ أو أخذ له شيئًا بغير حقِّهِ فأنا حجيجُهُ يومَ القيامَةِ. وأشارَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ بيدِهِ إلى صدرِهِ، ألا ومَن قتلَ رجلًا له ذمَّةُ اللهِ ورسولِهِ حرَّمَ اللهُ عليهِ الجنَّةَ، وإنَّ ريحها ليوجَدُ من مسيرَةِ سبعينَ خريفًا.

وأكملت قائلا: تخيل بعد خروجنا من السجن أن أحد معارفك صدم مسيحيا بسيارته فماذا ستفعل؟ ألن تأتي لي مهرولا راجيا أن أسعى في العطوة ثم الصلح بسبب احترامهم لي؛ حتى إذا بدأت أتحدث، تقاطعني أمام الجمع مناشدا يا أهل النخوة ويا أهل المروءة، يا كذا وكذا، وتكيل لهم المدح راجيا العفو والسماح؟ لماذا النفاق؟ إن كنت تعتقد أن دمهم مهدور، فهل تستطيع أن تمارس هذا المعتقد المنحرف؟ طبعا لا! فالنتيجة ليست فقط معصية لله ولرسوله، ولكن أيضا “ببلاش”، لأنه في أمر لا تملك القدرة حتى على تنفيذه. فصدم من المثل وأقرني على مقاربتي وتفهم خطأ مقاربته للأمر.

من ذاك الذي يكتب ويقول، مشتطاً في التفاؤل، إن ليس هناك حاضنة للإرهاب، مستندا فقط إلى الإجماع المبارك على إدانة جريمة الإرهاب في الكرك؟ هل نحتاج إلى تقديم مليون شهيد في بلاد الشام ومنها ما بدأ يصل إلى الأردن، حتى نصحو إلى أن سهولة التحريم التي كنا وما نزال نمارسها هي التي أنتجت وما تزال تنتج تكفيرا مدمرا للمجتمع، وهي وليس غيرها التي فرخت وتفرخ المفجرين؟ لا تكفي إدانة المفجرين الإرهابيين من قبل من ما يزالون يفتون يمنة ويسرة بالتحريم، بضحالة علمية هي أقرب إلى كلام العوام. كيف نرد على إعلاميي النظام السوري الذين يسخرون منا بكلام ليس بعيدا كثيرا عن الصحة، قائلين في إذاعتهم: “هؤلاء الذين تقولون عنهم إنهم إرهابيون هم أنفسهم الذين حين يقطعون الحدود قادمين عندنا تسمونهم المجاهدين الغازين في سبيل الله”؟

وعودا إلى موضوع حاضنة التحريم والتكفير المفضي بالضرورة إلى التفجير، نقول إن أوسع باب للتحريم هو الاتهام بالبدع، مع أن العلوم والأفعال المحمودة التي وصلتنا على مر القرون مرت بعلماء جهابذة أتقياء، لا تصل مجموعة من علمائنا إلى علم واحد فيهم. فمن تحريم الموالد إلى تحريم معايدة شركائنا المواطنين من أبناء الوطن، كلها طرق بل “أوتوسترادات” للتكفير المفضي عند بعض المتطرفين منهم إلى القتل. لقد أفحمت طفلة معلمة لها تعلمها بعدم جواز معايدة المسيحيين بسؤال بريء: إذا لماذا يسمح الشرع بزواج المسيحية من مسلم؟ فإذا كانت أمي مسيحية متزوجة من مسلم، فهل أعبس بوجه أمي وأجافيها لأنها “كافرة”؟ وهل من البر أن لا أقول لأمي كل عام وأنت بخير، وأن لا أهنئ أخوالي بعيدهم؟ من السفيه الذي يقول إن قولي لمسيحي كل عام وأنت بخير إقرار مني بمعتقد التثليث وترك للاعتقاد بالواحد الأحد؟ هذا منطق لا يقنع حتى طالب ابتدائي؟ فهل قلنا لهم كل عام وثالوثكم ظاهر على أحديتنا؟ أو كل عام وصليبكم يهزم هلالنا بعد قرون من معانقتهما لبعضهما بعضا في هذه الأراضي المباركة من العالم فقط لا غير، حتى تقوم قيامتكم فتكفروننا؟ أم إنني أشهد أن لا إله إلا الله وحده وأهنئ جاري العزيز الذي سمح لي ربي بأن أبره (ولولا أن البر هو من أعلى درجات المعروف لما أمر به الله فيما يخص الوالدين)، وأن أعامله بالقسط بآيات بينات من قرآنه؛ وذلك بأن أهنئه بمناسبة تفرحه، كما يفعل هو معي في عيدي في مجتمع يحترم نفسه وينبذ التباغض؟ قال الله تعالى: “لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”.

لماذا لا يحسن الظن بنا “فصحاء” التحريم، فيقولون إنه يقول لهم كل عام وأنتم بخير، أي إنني أتمنى في العام المقبل أن أجدكم على الخير الذي أعتقده في ديني؛ أم أننا توقفنا عن نهج الدعوة؟ هل لو لم يمت إبراهيم ابن نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم كان سوف لن يسلم على أخواله القبط المسيحيين؟ ويحكم! لقد تزوج الحبيب أم المؤمنين أمنا مارية القبطية وهي على دينها بعد أن كرمها واحترم المقوقس الذي أهداه إياها جارية على عرف ذلك الزمان، بأن أعتقها وجعلها حرة ثم تزوجها على دينها من دون غصبها على ترك دينها. وقد أسلمت في ما بعد هي وأختها سيرين المهداة له معها، والتي أهداها إلى شاعره حسان بن ثابت رضي الله عنه. وقد قال عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم عن أبي ذر مرفوعا: “إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط (يقصد مصراً) فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما”؛ يعني أخوال ولده إبراهيم. أفلا نطيع حبيب الله فنستوصي بأرحام رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً؟

إن تخفيف ساعات تعلم الدين واللغة العربية في المناهج جريمة، ستفضي إلى عكس الأهداف التي يرتجيها واضعوها؛ لأنها ستقدم أبناءنا هدية إلى سطحيين جهلة في المعارف الدينية (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، لأن أبناءنا سيملأون فراغ اشتياق فطرتهم للبحث عن إيمان تطمئن إليه النفوس، بأخذ معارف الدين من الطريق الموازية غير الآمنة الممتلئة بالجهلة الذين يمارسون اختطاف العقول والقلوب؛ تلك الطريق التي لا تخضع للرقابة، فلا ندري في حضن من سيقعون. وإن تكثيف العلم الديني المستند إلى المذاهب المعتبرة، كما إن تمكين الطالب باللغة العربية وبالخط العربي الأنيق، هو أنجع حاضنة تربوية ومعرفية نحمي به أبناءنا، وننمي لهم فيها شخصياتهم الوطنية ذات الهوية العربية حاملة رسالة الحضارة الإسلامية.

وأختم بتوضيح لمن لا يحسّنون الحسن بل يقبِّحون حسنه لمجرد أنه جديد مبتدع: يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة”. وقد ذكر ربنا سبحانه في قرآنه ما ابتدعه أتباع سيدنا المسيح من رهبانية فلم ينتقد حدوثها بل أقر أنهم ابتغوا بها رضوان الله، وإنما انتقد عدم رعايتهم لها بمعنى أنهم لم يلتزموا بالشروط التي وضعوها هم لأنفسهم، وأن لو قاموا برعايتها لكانت بدعة حميدة ممدوحة مقبولة، فقال جل وعز: “ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ”.

لقد حضرت بالأمس بدعة حسنة جميلة يطاع بها الله ولا يعصى، ويعظم بها رسله الميامين؛ ذلك أن بعض أهل العلم عقدوا مجلسا للإنشاد ينشد فيه مدح نبي الله وعبده سيدنا عيسى ابن مريم الطاهرة البتول، إلى جانب مدح سيد خلق الله سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليهما وسلم، وذكرت فيه الشمائل العيسوية إلى جانب الشمائل المحمدية. لقد حضرنا ذلك محبة لله ورسله. وإن الموالد لتهذب النفوس وتعالج جفاء القلوب وجفاف دموع الخشوع وتثاقل الأرواح. أعاننا الله على تحمل سهام أصحاب التاءين الأولى والثانية، وحمانا الله من تصرفات معتنقي التاء الثالثة. والسلام.

قد يعجبك ايضا