الأيزيدية ليلى سيدو تروي تفاصيل تجربتها القاسية ومعجزة نجاتها من براثن “داعش”

39

90512_1_1414618565

حصاد نيوز“لا أحد يستطيع أن يشعر بمأساة الآخرين إلا إذا عاشها بتفاصيلها، فكيف لمن يقرأ الأخبار ويسمع من بعيد عن المجازر التي يمارسها ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” أن يدرك حجم مأساة ضحايا هذا التنظيم الدموي؟”.

هكذا تبدأ العراقية ليلى سيدو (26 عاما) برواية قصة الرعب التي عاشتها على أيدي “داعش” طوال أيام.  
و”سيدو” صحفية من مدينة سنجار الواقعة غربي الموصل في الصحراء العراقية، وهي إحدى الناجيات من حصار دام تسعة 
أيام متواصلة في أحد الجبال الموجودة في القرى التي تحيط بالمدينة إثر سقوطها بيد “داعش”.

وتروي سيدو الموجودة حاليا في عمّان للمشاركة في ورشة عمل إعلامية ينظمها مركز حماية وحرية الصحفيين في فندق الريجنسي  تفاصيل تجربتها القاسية، والتي يبدو في طيات كلماتها أنها تجربة لن تمحى من ذاكرتها، في حصار شاهدت في أيامه التسعة أبشع أنواع “الانتهاكات” التي تمس حقوق الإنسان.

وهي واحدة من ضحايا الأقليات العراقية التي عانت من “داعش”، بتهمة الانتماء إلى الطائفة الأيزيدية، ولم تدرك أن هذا الانتماء سيكون سببا لتهديد حياتها وحياة طفليها يوما ما.

وتبدأ سيدو برواية تجربتها محاولة قدر المستطاع أن تبدو متماسكة، فتقول: “في عصر الثاني من آب(أغسطس) كنت برفقة جارتي في السوق، وهناك أخبرتني عن إشاعات تفيد بقرب دخول تنظيم “داعش” إلى سنجار”، غير أن سيدو لم تأخذ تلك الإشاعة على محمل الجد، استنادا إلى ثقتها بالرواية الأمنية الحكومية وبالأحزاب في مدينتها، والتي كانت تؤكد أن مدينة سنجار “آمنة من داعش”.

ورغم إصرارها على تجاهل هذه الإشاعة، لكن جارتها السنية نصحتها بأن تكون محتاطة، خصوصا وأنها أيزيدية، ومن ضمن “المغضوب عليهم” الذين تبحث عنهم “داعش”، وهنا بدأت سيدو الشعور بالقلق، فاتصلت بزوجها الذي يعيش في منطقة دهوك بالقرب من سنجار للتأكد من صحة المعلومة، لكن الأخير نفاها بجملة بسيطة: “مشكلتك أنك تصدقين كل ما تسمعينه”.

وفي عصر أحد الأيام، بدأت هذه الإشاعة تتحول الى “معلومة أقرب للدقة”، وفقا لسيدو، “نظرا لانتشارها بسرعة في الحي الذي نقطنه، وتحسبا لأي مجازفة طلبت من جارتي أن أنام في منزلها تلك الليلة، وبقيت حتى ساعة متأخرة من الليل أتابع الأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي كانت جميعها تطمئن الأيزيديين بأن “داعش” لن تقترب من سنجار، وأنها منطقة آمنة وكل ما يشاع بعيد عن الصحة”.

ولم تمض غير ساعات قليلة حتى أدركت سيدو أن ما قرأته من روايات إعلامية كانت بعيدة عن الصحة، ففي فجر اليوم الثاني استيقظت على صوت جارتها وهي تلح عليها بأن تجهز نفسها ولوازم طفليها استعدادا للهروب من منزلها.

وما جعلها تتأكد من صحة ذلك، استقبالها اتصالات تفيد بأن منطقة “جرزريك” التي تبعد عن سنجار 15 دقيقة تشهد اشتباكات عنيفة مع “داعش”، وتقول: “لم يكن لدينا سوى خيارين إما الهروب أو الاستسلام للموت، وفي السابق تعلمنا أن النظام عندما يسقط يذهب هو وحكومته ويبقى الناس في مكانهم، لكن هذه المرة كان الأمر مختلفا تماما”.

وفي الساعة الثامنة صباحا، جاء شقيق زوجها وأخذها هي وطفليها خارج سنجار التي باتت على مشارف الاشتباكات مع “داعش”، وفي الطريق شاهدت الناس وهم يهربون من الرصاص الحي، وصولا الى منطقة مغلقة بحواجز رملية أمنية، ما اضطرهم الى استكمال الطريق مشيا على الأقدام إلى حين وصولهم قرية “سولاخ”.

ثم اتجهت سيدو الى منزل يملكه ذوو زوجها، وتضيف: “بدأنا نسمع أن سنجار سيطر عليها “داعش”، عشر دقائق فقط هي فترة خروجي من منزلي أنقذتني من القتل أنا وأولادي بأيدي داعش”.

وتضيف: “وفي أثناء وجودي في منزل أهل زوجي في سولاخ ذاك الصباح نظرت من النافذة ورأيت رجالا يرتدون لباسا أسود بجانب مزار السيدة زينب للشيعة وقاموا بتفجيره”.

وهنا أدركت سيدو وعائلة زوجها أن قوات “داعش” أصبحت قريبة جدا من قرية “سولاخ”، وتقول “هرعنا الى السيارات للهروب الي الجبل، وشاهدنا الناس وهم يهربون بالاتجاه نفسه، وكنا نجسد مشهد الهجرة الجماعية، ولاحظت من خلال مشاهداتي ونحن في الطريق، أن هناك مهجرين يركضون بالملابس الداخلية، فضلا عن أشخاص لم يكونوا يرتدون أحذية، واستقررنا أسفل الجبل”.

وهناك بدأت سيدو تستقبل اتصالات من صديقات لها من غير الأيزيديات، ينصحنها بأن تنجو بنفسها، وتقول: “صديقة مسلمة لي هاتفتني واقترحت علي أن تأخذني وأرتدي الحجاب وأدعي أنني مسلمة، فخفت أن يطلبوا هويتي، وهنا بدأت تنهار نفسيتي وأيقنت أن حياتي وحياة أهلي ومن معي في خطر، وأنني مهددة بالانتهاء برصاصة واحدة من داعش في أي لحظة”.

“بدأنا ننصب الخيام للنساء في أسفل الجبل”، تقول سيدو، وتضيف: “كان معنا تموين بسيط، لكن بقي سؤال كيفية سقوط سنجار يلح في ذهني، دون أن أكون قادرة على استيعاب ما يحدث من تغيير جاء بسرعة البرق”.

وتتابع سيدو: “سمعنا أن من يضع على سطح منزله قماشا أبيض فهو إشارة للاستسلام، واقترحت على أهل زوجي أن نقوم بذلك، وعدنا إلى قرية سولاخ ووضعنا القماش الأبيض أعلى السطح، ثم بدأ صوت إطلاق الرصاص يزيد ويقترب بعد عودتنا، وورد اتصال إلى مختار القرية يعلمه بقرب قدوم داعش”.

وتقول: “عدنا الى الجبل، وهنا دخلنا في اليوم الثالث من الحصار”، وتصف سيدو صعوبة الحال هناك، سواء من حيث درجات الحرارة المرتفعة للغاية، والحالة النفسية الأقرب الى الانهيار التي اجتاحت صفوف النازحين من الأيزيديين في الجبل، فضلا عن القلق من قرب شح المواد التموينية.

“بتنا نسمع أخبارا عن قرب وصول داعش الى الجبل”، تقول سيدو، “ما جعل رجال الجبل من النازحين يصنعون حاجزا في مقدمة الجبل من خلال اصطفاف سياراتهم على شكل حواجز كبيرة حتى يحموا النساء والأطفال”.

وتصف حالة التلاحم الإنساني بين صفوف النازحين الذين كانوا يتشاركون في الطعام والشراب وكل يؤازر الآخر، فتقول: “أذكر أنه في الأيام الأولى من النزوح، شهدنا أول حالة ولادة في الجبل، وكم استغربنا لكن بعد تكرار هذه الحالة خلال الأيام اللاحقة، لم نعد نستغرب، فنحن كنا شبه متأكدين من أن نزوحنا إلى الجبل سيطول، وأننا على موعد قريب مع إبادة جماعية”.
وتزيد: “كنا ننتظر الموت.. هكذا كان حالنا، وفجر اليوم الثالث سمعنا صوت إطلاق رصاص قريب، وجاءت سيارات من “داعش” باتجاهنا، وبدأت المقاومة من الرجال الذين كانوا معنا، وبدأنا نصعد الى الجبل، نساء وأطفالا ومسنين، من خلال نفق ضيق، لكننا صعدنا مسافة بسيطة، إذ كان من الصعب تسلق الجبل”.

وتضيف سيدو: “بدأت آثار التعب تظهر على أجسادنا ونحن هاربون الى أعلى الجبل، وفرغت كميات المياه، فاضطررنا للعودة الى الأسفل لإحضار المياه، وكان الرجال يصعدون وينزلون، وكان يستغرق زمن إحضارها ساعة كاملة في كل عملية، وفي اليوم الخامس بدأ الوضع الصحي ينهار في صفوف النازحين في الجبل، أطفال يتوفون ومسنون كذلك، وفي اليوم السادس قررنا الذهاب الى مزار شرف الدين، فهناك كانت المقاومة قوية، وفيها قوات حماية من حزب العمال الكردستاني، وذهبنا الى هناك”.


وقبل الحديث عن رحلة الذهاب الى مزار شرف الدين تعود سيدو بذاكرتها الى آخر مشاهد الجبل، قائلة: “شاهدت صنوفا من 
المعاناة لم أشاهدها طوال حياتي: نساء ينجبن ويموت أطفالهن فور ولادتهم، وصرخات أطفال ومسنين يطلبون المساعدة، وشباب بعمر الورد يفترشون الأرض ولا أعرف إذا كانوا أمواتا أو في غيبوية”.

أما المشهد الأكثر تأثيرا في ذاكرة سيدو فكان لامرأة مسنة اعتاد ابنها في رحلة الصعود والنزول أيام النزوح إلى الجبل أن يحملها رغم معاناته جراء عملية جراحية كان أجراها قبل مدة وجيزة قبل النزوح، وتقول سيدو عن تلك القصة: “بدأت هذه المرأة تشعر بأنها تشكل خطرا على حياة ابنها، وفي إحدى المرات التي كان يحملها طلبت منه أن يضعها أرضا بحجة أنها تريد أن تستريح قليلا، وعندما وضعها قامت بإلقاء نفسها من أعلى الجبل”.

وهنا بدأت سيدو تنهار وتدخل في نوبة بكاء متواصل وهي تسرد تلك القصة، وتردد: “تخيلي الأم خدعت ابنها بموتها، وما زلت أسمع صوت بكاء ابنها حتى هذه اللحظة”.

وفي مشهد آخر وفق سيدو، “وضعت امرأة طفليها جانبا بعد أن ماتا عطشا وجوعا، فما كان مني إلا أن هيأت نفسي أنا أيضا لخسارة أطفالي”.
وتضيف: “كنا نغمض أعيننا حتى نشرب المياه السوداء، ورأينا الدود بأعيننا في المياه التي كنا نشربها، وابني كان يتوسل إلي بأن تأتي طائرة لمساعدتنا.. رأيت معاناة لا توصف، وكل خطوة كنا نمشيها تحتاج قصة لشرحها، والله العظيم شاهدت أناسا يأكلون ورق الأشجار، وفي اليوم الثامن كان عندي أقل من ربع عبوة مياه لحليب ولدي، وأذكر أنني منحت إحداهن الجزء الأكبر من المياه لابنها الذي كان يشرف على الموت، وأبقيت قطرات لابني الصغير، فيما بقي ابني الآخر دون مياه”.
وتتابع: “في مزار شرف الدين، في اليوم الثامن، هناك شربنا مياها، وتركنا خلفنا أمواتا في الجبل، وفي تلك المدينة منحونا طعاما لم أقم بتناوله، بل خبأته لأولادي تحسبا للأيام المقبلة”.
وتضيف سيدو: “هناك سمعنا أن قوات حزب العمال الكردستاني فتحت نفقا يسمح للناس بالهروب إلى الحدود السورية، لكن حتى الهروب الى هناك كان يحتمل الموت أيضا، غير أنني وصلت إلى قناعة مفادها أنني لن أعود الى حياتي الطبيعية، ولن أرى زوجي، أما الحياة فقد انتهت بالنسبة لي، ولكل الموجودين حولي”.
وتقول سيدو: “في الساعة الرابعة فجرا من ليلة الوصول إلى مزار شرف الدين، وردتنا أنباء عن قدوم مدرعات لـ”داعش” وفي نيتها القيام بإبادة جماعية، وهنا قررنا القيام بهجرة جماعية باتجاه النفق المؤدي الى الحدود السورية، وجاءت سيارات حزب العمال وأقلت الأطفال والمسنين الذين كانوا بين الحياة والموت”.
وتتابع: “ذهبنا الى النفق مشيا لأكثر من ثماني ساعات، وكنت أسمع صوت ابني وهو يقول “ما عدت أتحمل”، بل حتى الملابس أصبحت ثقلا على البعض وهم يمشون، وبدأوا بخلعها ورميها، وأذكر مشهدا لأب يجر ابنته الصغيرة التي لا تلبس حذاء وأقدامها تنزف من التراب والحصى”.
تلتقط نفسا بصعوبة ثم تتابع: “وصلنا الحدود في اليوم التاسع، وجاءت حافلات سورية من حزب العمال وأقلتنا من الحدود باتجاه زاخو التي تتبع لإقليم كردستان، حيث قوات البشمركة، وهناك توزع النازحون على المدارس والمنازل لثلاثة أيام ثم انتقلنا الى المخيمات”. وتضيف: “عندما جاء زوجي لم يعرفني عندما رآني، وبقي يسأل “وين ليلى”، وكان وضع النازحين الأيزيديين أصعب من باقي النازحين، والآن أعيش في سرداب مع عائلتي تقطن فيه أيضا خمس عائلات”.
وفي نهاية الحوار، المفعم بالدموع والكبرياء، لم تتورع سيدو عن إطلاق نداء حار: “أنقذوا الأيزيديين الموجودين الآن في الجبل”، مؤكدة أن طائفتها لم تؤذ أحدا طوال تاريخها الضارب في القدم.

قد يعجبك ايضا