لماذا أصبح التحول الرقمي والإدراكي ضرورة وطنية لا خيارًا؟

12٬422

 

حصادنيوز – م . سعيد المصري -لقد أصبح العالم يقف على أعتاب تحوّل بنيوي غير مسبوق تقوده تقنيات الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي الإدراكي. هذه التقنيات لا تغيّر فقط طريقة الإنتاج… بل تُخفض الكلفة الحقيقية لمعظم السلع والخدمات التي اعتادت الدول التنافس عليها طوال العقود الماضية.
ومع هذا الانخفاض الهائل في كلف الإنتاج عالميًا، دخلت الاقتصادات في معادلة جديدة:

من يمتلك القدرة الرقمية والإدراكية ينتج أكثر… بكلفة أقل… وبسرعة أعلى.
ومن يتأخر، يخرج من المنافسة مهما بذل من جهد تقليدي.

وبما أن الاقتصاد الأردني يعتمد على قطاعات ستتأثر مباشرة بهذه الثورة—كالعمالة، والطاقة، والنقل، والخدمات—فإن البقاء خارج الموجة الرقمية لم يعد خيارًا آمنًا… بل لم يعد خيارًا أصلًا.

لذلك، يأتي هذا المقال للدفاع عن ضرورة الخروج من النفق الاقتصادي الحالي عبر ثورة إنتاجية رقممية قادرة على تغيير مسار الاقتصاد الأردني، لأن الثورة الرقمية لا تمنح فرصة ثانية لمن يتأخر.

أولًا: استقرار مالي ونقدي حالي… نعم، ولكن!

ورغم أن المؤشرات المالية الظاهرية تعطي انطباعًا بالاستقرار — فوائد تُدفع والتزامات تُدار — إلا أن هذا الاستقرار مؤقت بطبيعته، ولا يملك مقوّمات الاستمرار ما لم يتغيّر مسار الاقتصاد جذريًا.

فالواقع يقول:
• الدين العام عند 118٪ من الناتج المحلي، وهو مستوى مرتفع لاقتصاد بحجم الأردن.

• العجز السنوي يبلغ 3.1 مليار دولار، أي ما يقارب 6٪ من الناتج.

• النمو الاقتصادي لا يتجاوز 2.5٪ منذ سنوات، وهو معدل غير قادر على استيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل.

• البطالة عند 22٪، وهي نتيجة مباشرة لضعف النمو وتباطؤ القطاعات الإنتاجية.

• الإنتاجية الوطنية شبه ثابتة، ما يوضح غياب التحول الهيكلي عن محركات الاقتصاد.

هذه الأرقام تعني أن الاستمرار على النهج الحالي يقود الأردن إلى طريق مسدود على المدى المتوسط، وأن “الاستقرار” الذي تمّ تحقيقه حتى الآن هو في جوهره إدارة أزمة لا يمكن الاستمرار بها، بل يجب أن ننهيها عبر اجتراح حلول جديدة لتنشيط الاقتصاد وتحفيز النمو الحقيقي.

ثانيًا: الثورة الرقمية تهزّ قواعد اللعبة… وتفرض مسارًا جديدًا

الذكاء الاصطناعي الإدراكي، إلى جانب تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، سيقود العالم إلى:

• إنتاج كميات أكبر بكلفة أقل

• اعتماد أقل على العمالة التقليدية

• استبدال وظائف كاملة بأنظمة ذكية

• تفوق البلدان التي تستثمر في التكنولوجيا على تلك التي تعتمد على الأساليب التقليدية.

وهذا يعني أن الدول التي لا تدخل هذه الثورة سريعًا ستعاني من:

• بطالة بنيوية

• انخفاض القدرة التنافسية

• هجرة المهارات
• ضعف في حصتها داخل الأسواق الإقليمية والدولية.

والأردن، بتركيبته الديموغرافية، لا يحتمل هذا السيناريو.

ثالثًا: المشاريع الرأسمالية… فرق جوهري بين “الحجري” و“الإنتاجي”

أحد المفاهيم غير الدقيقة في الإدارة الاقتصادية خلال العقود الماضية هو اعتبار كل إنفاق رأسمالي إنفاقًا تنمويًا، بينما الواقع يخالف ذلك تمامًا، خصوصًا في بلد مثل الأردن حيث النفقات الرأسمالية محدودة أصلًا ولا تتجاوز نسبًا متواضعة من الموازنة العامة.

وعندما تكون المخصصات الرأسمالية قليلة، تصبح أولويات الصرف أكثر أهمية من حجم الصرف نفسه؛ لأن أي مشروع يتم إنشاؤه ويرتب دينًا إضافيًا لصالحه ولا يخلق نموًا ولا فرص عمل، إنما يؤدي في النهاية إلى زيادة العبء المالي التراكمي على الدولة دون أثر اقتصادي يبرر ذلك.

ومن الأمثلة غير الموفقة في عصر الشحّ المالي على اختيار مشاريع النفقات الرأسمالية في ظل محدوديتها:

1. إنشاء مبانٍ حكومية جديدة بلا حاجة فعلية

2. تنفيذ طرق وجسور أو أي بنية تحتية غير مرتبطة بممرات التجارة أو مناطق الإنتاج

3. الإنفاق على مشاريع تجميل عمراني

4. اللجوء إلى بناء مرافق عامة بلا خطة تشغيل أو حاجة مجتمعية حقيقية

5. إدراج مشاريع استجابة لضغوط مناطقية أو سياسية

2. مشاريع رأسمالية منتجة

مراكز البيانات

الطاقة المتجددة

الزراعة الذكية

سلاسل التوريد الرقمية

الصناعات ذات القيمة المضافة

منصات الاقتصاد الإدراكي

وحدها هذه المشاريع ترفع النمو من 2.5٪ إلى 4–5٪.

رابعًا: لماذا أصبح الخروج من النفق ضرورة وطنية؟
لأن بقاء الوضع كما هو يعني:

دين يتراكم بلا إنتاجية،

بطالة تتصاعد بلا حلول

نمو بطيء بلا مستقبل

فجوة اجتماعية تتسع

وتراجع القدرة التنافسية أمام دول الخليج المتقدمة تكنولوجيًا.

وبالتالي:

الاستمرار على النهج الحالي لم يعد خيارًا آمنًا… بل لم يعد خيارًا أصلًا.

خامسًا: الثورة الإنتاجية الرقمية — الطريق الوحيد إلى اقتصاد المستقبل

1. إعادة توجيه الإنفاق الرأسمالي نحو المشاريع المنتِجة
تحويل 30–40٪ من الإنفاق نحو:
• الرقمنة
• البنية التقنية
• مراكز البيانات
• الزراعة الذكية
• التعليم التقني
• الصناعات المتقدمة

2. إطلاق برنامج وطني للحفز الرقمي والإدراكي
• رقمنة الخدمات الحكومية
• بنية تحتية للذكاء الاصطناعي
• إعادة تأهيل القوى العاملة
• تعليم مهني وتقني متقدم
• منظومة لوجستية رقمية متصلة بالإقليم

3. ترك خيارات التمويل للحكومات حسب الجهات المستجيبة
• التمويل الدولي
• الاستثمارات الخليجية
• شراكات القطاع الخاص
• التمويلات الميسّرة

الأردن أمام لحظة حاسمة: إما الخروج من عنق الزجاجة من خلال ثورة إنتاجية رقممية جريئة، أو البقاء في مسار بطيء يقود إلى تآكل القدرة الإنتاجية وارتفاع البطالة وتراجع المكانة الاقتصادية.

الثورة الرقمية لا تنتظر أحدًا، والدول التي لا تتحرك اليوم… ستدفع ثمن التأخير غدًا مضاعفًا.



 

 

قد يعجبك ايضا