الفوضى العالمية واختطاف المشروع الصهيوني: كيف يقوّض مسار اليمين الإسرائيلي المتطرف النظام الأخلاقي الغربي

13٬230

 

حصاد نيوز – م.سعيد بهاء المصري – إن النظام العالمي الذي أعقب الحرب الباردة يتفكك. فالمؤسسات التي كانت تدّعي تجسيد السلطة الأخلاقية باتت تتعثر تحت وطأة تناقضاتها الداخلية. وفي الشرق الأوسط، يتجلى هذا الانهيار في أوضح صوره: فالقوى الغربية التي ترفع شعار السيادة وحقوق الإنسان في أوكرانيا، تتجاهله تمامًا في غزة. لقد أصبحت مأساة المنطقة مرآة تعكس التآكل الأخلاقي والارتباك الاستراتيجي لدى الغرب.

ما بدأ صراعًا على الأرض تطوّر إلى معركة أعمق حول القيم والشرعية. فالحكومة التي يقودها بنيامين نتنياهو اختطفت فعليًا المشروع الصهيوني، وحوّلته من تجربة لبناء دولة حديثة إلى مشروع توسّعي تحركه القومية الدينية والتفوّق العرقي. لم تعد حملاتها العسكرية في غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان تتظاهر بالسعي إلى الأمن؛ بل تهدف إلى الهيمنة عبر التدمير. وما كان يُسوَّق يومًا كمشروعٍ لبقاء الأمة، تحوّل إلى عقيدةٍ للحصار الدائم.

والمفارقة أن هذا التطرّف لا يهدد الفلسطينيين وجيرانهم فحسب، بل يقوّض أيضًا الأسس التي يقوم عليها النظام الغربي نفسه، ذلك النظام الذي رعاه ومكّنه. فكل قنبلة تُلقى على غزة، وكل مستوطنة تتوسع في الضفة الغربية، وكل توغّل في الأراضي السورية أو اللبنانية، يقتطع من ادعاء الغرب بتمسّكه بالمبادئ الكونية. لقد جرّت أيديولوجية اليمين المتطرف في ائتلاف نتنياهو إسرائيل وبتبعيتها حلفاءها الغربيين إلى مستنقعٍ أخلاقي لا تنقذهم منه لا التكنولوجيا العسكرية ولا البلاغة الدبلوماسية.

في أوروبا وأميركا الشمالية، تتردد أصداء هذه الأزمة بعمق. أجيالٌ نشأت على الإيمان بالمثل الليبرالية بدأت تشكّك في نزاهة حكوماتها وإعلامها. الجامعات، وهيئات التحرير، والمنصّات المدنية تموج بالنقاش والغضب، لا بدافع كراهية الغرب بل بدافع الإحباط من نفاقه. إن انهيار المصداقية لم يعد قضية شرق أوسطية؛ بل غدا أزمةً غربية داخلية.

وفي أوساط المفكرين اليهود وغير اليهود، برز تيارٌ ملحوظ من المقاومة الأخلاقية. فاقتصاديون مثل جيفري ساكس، وواقعيون سياسيون مثل جون ميرشايمر، حلّلوا الطبيعة المدمّرة لدعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للاحتلال الدائم، محذرين من أن العمى الأخلاقي يولّد الانحدار الاستراتيجي. أما داخل الفكر اليهودي نفسه، فهناك شخصيات مثل نورمان فنكلستاين، إيلان بابِه، بيتر بينارت، نعومي كلاين، برنارد أفِشاي، جوديث بتلر، وسوزان نيمن، تطرح رؤية بديلة تقوم على العدالة والتعايش والكرامة الإنسانية. إن رفض أيديولوجية نتنياهو ليس معاداة للسامية؛ بل هو دفاعٌ عن جوهر القيم الأخلاقية التي ادّعت الصهيونية السياسية ذات يوم أنها تمثلها.

وهذا الوعي الأخلاقي لا يقتصر على الأوساط الأكاديمية. فالأصوات الثقافية والروحية والحقوقية في الغرب باتت ترى أن ما يجري من دمار يتنافى مع القيم الديمقراطية ذاتها. صور غزة والضفة لم تعد مآسي بعيدة، بل صدماتٍ أخلاقية تخترق الحواجز الأيديولوجية. الجيل الشاب الذي نشأ في عالمٍ من المعلومات الفورية والتعاطف العابر للثقافات بدأ يعيد النظر في التحالفات القديمة. وهو يطرح أسئلة لم يعد قادته قادرين على التهرّب منها: أيّ نظامٍ هذا الذي يدافع عن الاحتلال وهو يرفع شعار الحرية؟ وأيّ مصداقية تبقى للقانون الدولي حين يعتمد تطبيقه على هوية الضحية؟

ومع ذلك، وبينما يتبلور هذا الحساب الأخلاقي في الغرب، يبقى العالم العربي في موقع المتفرّج. فلم يبنِ بعدُ قنواتٍ فكرية أو دبلوماسية للتفاعل مع هذه الأصوات الغربية أو لتحويل الغضب الشعبي إلى استراتيجيةٍ واضحة. فالبيانات الرسمية التي تُصدرها الحكومات لا يمكن أن تكون بديلاً عن حملةٍ مستدامة من الحوار والبحث والدبلوماسية العامة. وبالتنازل عن هذا المجال، تفسح الحكومات العربية المجال أمام منظماتٍ غير حكومية وجماعات ضغط وحركاتٍ شعبوية لتحتكر السردية وتوجّه الرأي العام العالمي.

إن الفرصة الضائعة تاريخية. فالأزمة الضميرية التي يعيشها الغرب تفتح نافذةً نادرة لإعادة صياغة القضية الفلسطينية، لا بوصفها نزاعًا إقليميًا فحسب، بل اختبارًا عالميًا للعدالة. ومن خلال التحالف مع المفكرين والنشطاء والقادة الروحيين في الغرب الذين يتحدّون المعايير المزدوجة، يمكن للعالم العربي أن ينتقل من موقع الضحية الدائمة إلى موقع القيادة البنّاءة. وبدلاً من الاعتماد على الحكومات وحدها، تستطيع الجامعات ووسائل الإعلام والمجتمعات المدنية العربية تنظيم منتدياتٍ تجمع الأصوات الإقليمية بنظرائها في الغرب لصياغة رؤيةٍ مشتركة للسلام والتعايش، قائمةٍ على القانون والتعاطف والكرامة المتساوية.

وهذا الانخراط سيخدم المصالح العربية أيضًا. فاستقرار المنطقة وتعافيها الاقتصادي يعتمدان على كسر حلقة التفاعل وردّ الفعل. وإعادة الاستثمار في الدبلوماسية الفكرية عبر المراكز الثقافية والتعاون الأكاديمي والحوار السياساتي يمكن أن يغيّر صورة العالم العربي من ساحة أزمة إلى شريكٍ في التجديد العالمي. فجزء من السلطة الأخلاقية التي أضاعها الغرب بنفاقه يمكن استعادتها بمبادرةٍ عربية جادة.

أما مسار إسرائيل الحالي فهو كارثي استراتيجيًا. فبسعيها إلى الضمّ تحت راية الحقّ الإلهي، تعزل حكومة نتنياهو إسرائيل عن جيرانها وعن الضمير العالمي على حدّ سواء. حتى حلفاؤها الغربيون باتوا يواجهون معارضةً داخلية متزايدة لأي دعمٍ غير مشروط لها. لقد حوّل الخطاب اليميني المتطرف، المتشبّع بالنزعة الدينية الاستثنائية، دولةً كانت تُقدَّر بإبداعها إلى رمزٍ للقمع والفصل العنصري. إن هذا الأسر الأيديولوجي حيث تغلب الحماسة الدينية على العقل السياسي لا يمكن أن ينتج أمنًا، بل يولّد صراعًا دائمًا وفقدانًا للشرعية.

ومن منظورٍ جيوسياسي، تتجاوز التداعيات حدود الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. فازدواجية المعايير في السياسة الخارجية الغربية تُضعف مصداقيتها في الجنوب العالمي، وتُسرّع انتقال الثقل نحو التعدّدية القطبية بقيادة الصين وروسيا وتكتلاتٍ إقليمية ناشئة. وحين يتحدث القادة الغربيون عن «النظام القائم على القواعد»، يسمع معظم العالم تعبيرًا مموّهًا عن العدالة الانتقائية. إن فراغ الثقة الناتج عن ذلك يتيح للقوى المنافسة أن تملأ الفراغ الأخلاقي والدبلوماسي، معيدة تشكيل التحالفات من المتوسط إلى المحيط الهندي.

ولكي يستعيد الغرب اتساقه الأخلاقي، لا بد له من أكثر من دبلوماسية الهدنة؛ بل عليه مواجهة التطرّف الذي موّله وسكت عنه. أما العالم العربي فعليه أن ينتقل من الخطاب الانفعالي إلى الانخراط الاستراتيجي مع الضمير العالمي المستيقظ الآن. وبين خيبة الغرب وجمود العرب، توجد مساحة لتحالفٍ أخلاقيٍ جديد تحالفٍ يدرك أن النضال من أجل كرامة الفلسطينيين جزءٌ لا يتجزأ من الدفاع عن النظام العالمي نفسه.

وإذا اغتنم العالم العربي هذه الفرصة، يمكنه تحويل السردية من اليأس إلى الاتجاه، ومن التشتت إلى القيادة. لكن الزمن ليس في صالحه. فكلّ عملٍ وحشي جديد يعمّق الهوّة بين القيم التي يعلنها الغرب والسياسات التي يمارسها. والمهمة الآن ليست في الإدانة فحسب، بل في الوصل: وصل الشرعية الأخلاقية العربية بالشجاعة الفكرية الغربية. عندها فقط يمكن للعالم أن يبدأ في استعادة الإيمان بأن العدالة الشاملة، غير القابلة للتجزئة، والإنسانية ما زالت ممكنة في زمن الفوضى العالمية.

قد يعجبك ايضا