هآرتس: التجويع في غزة إستراتيجية إسرائيلية.. ومشاهد هزال الأطفال الفلسطينيين فظيعة
حصادنيوز – في ظل محاولات إعلامية وسياسية رسمية وغير رسمية في إسرائيل للتنكّر لجرائم الإبادة والتجويع، ومحاولة النيل من مصداقية تقارير دولية بهذا الخصوص، كالبيان الأممي المشترك لـ”الفاو” و”يونيسف”، يؤكد تحقيق تنشره صحيفة “هآرتس” العبرية، اليوم الجمعة، أن قطاع غزة يشهد فظائع مرعبة، خاصة بما يتعلّق بجرائم تجويع الأطفال الفلسطينيين.
تحت عنوان “المزيد والمزيد من الأطفال الجائعين: جولات افتراضية في عيادات غزة تكشف حجم الفظاعة” يؤكد التحقيق بالصوت والصورة أن الاحتلال يقترف جرائم ضد البشرية، وذلك استنادًا لشهادات مكتظة ومقابلات مع أطباء وجهات طبية داخل القطاع.
يقول التحقيق إن الطفلة بيان سكر ترقد على السرير، ووالدتها تُسند رأسها، فهي فتاة تبلغ من العمر عشر سنوات، نحيلة للغاية، مرهقة وضعيفة، جسدها مرتخٍ، ووزنها لا يتجاوز 17 كغم. “هذا وزن طفل في الرابعة من عمره”، يقول الدكتور أحمد الفرا، مدير قسم الأطفال في مستشفى ناصر بخان يونس. “هي لا تعاني من أي مرض، فقط من سوء تغذية، ووفقًا لوالدتها، فقد كان وزنها قبل شهرين فقط 24 كغم.” خلال الفحص، يشير الدكتور الفرا إلى ضلوع بيان البارزة ويديها النحيلتين. ورغم أنها تمكنت من الجلوس قليلًا خلال الفحص وضغطت يده، إلا أن عينيها كانتا خامدتين، وعندما طُلب منها أن تقول اسمها بدا واضحًا أنها تكافح لتتكلم. يتبين من الحديث أن والدها أُصيب ببداية الحرب وبُترت ساقه، وأصبح الحصول على الطعام مهمة شبه مستحيلة. تقول الأم: لا يوجد طعام، وإذا وُجد، فلا مال لدينا لشرائه.
الفظاعة لا توصف
وتقول “هآرتس” إنها أجرت اللقاء الافتراضي مع الدكتور الفرا ومرضاه يوم الإثنين الماضي عبر مكالمة فيديو، منوّهة أنه في الأسابيع الأخيرة سعت إلى توثيق واقع الجوع في غزة لرؤية خطورة الوضع بأعينها. وتضيف، ناسفة الرواية الإسرائيلية الرسمية: “إسرائيل لا تسمح للصحافيين بدخول القطاع، لكن مكالمات الفيديو تتيح نوعًا من الجولات الافتراضية داخل المستشفيات والعيادات. خلال العمل على هذا التحقيق، أجرينا أربع جولات كهذه في مواقع مختلفة، وتحدثنا مع 12 طبيبًا، 10 منهم متطوعون من أمريكا وبريطانيا كانوا في القطاع أو غادروه مؤخرًا. ما رأيناه لم يترك مجالًا للشك: حجم الفظاعة يفوق الوصف”.
صور لأجساد أنهكها الجوع
وحسب “هآرتس”، استمرت الجولة في مستشفى ناصر ساعة كاملة، حيث تنقل الدكتور الفرا من سرير إلى آخر، بينما يحمل أحد موظفي المستشفى الكاميرا. وتقول الصحيفة العبرية: “رأينا أطفالًا دمّر الجوع أجسادهم، شعرهم باهت ومتساقط، وجوههم مجعدة، بطونهم منتفخة، أجسامهم مرتخية، والعديد منهم يحمل علامات جلدية. بعضهم بدا بلا أي حراك، والبعض الآخر كانت عظامه تبرز بوضوح من تحت الجلد. خلال الجولات والمقابلات، قمنا بتوثيق ما يقارب 50 حالة لأطفال (وقلة من البالغين) يعانون من سوء تغذية حاد. بالنسبة لنصفهم، لم نستطع الحصول على خلفية طبية دقيقة بسبب الفوضى العارمة في القطاع. أما في حالة 27 طفلًا، فتمكنا من الحصول على معلومات من أطباء، أفراد عائلة، وهيئات رسمية. من بين هؤلاء، 17 طفلًا عانوا من سوء تغذية حاد دون أي أمراض سابقة، و10 منهم كانت لديهم حالات طبية سابقة”. وتوضح الصحيفة أن الأمراض التي واجهتها كانت ناتجة عن ظروف المعيشة الصعبة، أو تفاقمت بسبب الجوع، وليست سببًا للجوع. وقد أكد الأطباء مرارًا أن حتى في حالات المرض، فإن سوء التغذية الحاد لم يكن حتميًا، وأن من يدّعي أن صور الأطفال الجائعين هي نتيجة لأمراض وراثية وليس لنقص الغذاء، فإنه يخدع نفسه.
توثيق مصوَّر مرعب
أما الصور التي وردت في التحقيق فقد تم التقاطها غالبًا بطلب من “هآرتس”، وبعضها أثناء الجولات أو بعدها مباشرة، وهناك أخرى صُوّرت بواسطة أطباء أو جهات دولية باستخدام توثيق زمني وبيانات وفحص للصور والتحقق من مصداقيتها.
من بين الحالات تقدّم “هآرتس” عينّات من صور المجاعة المروّعة:
* شام قديح، تبلغ من العمر عامين، وزنها 4.4 كغم، وهي تعاني من مرض استقلابي يتطلب نظامًا غذائيًا خاصًا غير متوفر في القطاع.
* أسيل حمد، وُلدت بوزن 3.5 كغم، وبعد 3 أشهر أصبح وزنها 3.9 كغم فقط. تقول والدتها إنها لم تستطع إرضاعها لأنها كانت جائعة بنفسها.
* عُمر المصري، رضيع وُلد بوزن 4.6 كغم، واليوم وزنه 4 كغم. تغيّر لون شعره بفعل الجوع.
* سُدين النجار، تبلغ 9 سنوات، أصيبت بشلل جزئي، ويُعتقد أن السبب فيروس شبيه بشلل الأطفال ناتج عن مجاري مفتوحة بين مخيمات النزوح.
أطفال بجسد الشيوخ
وتؤكد “هآرتس” أن بعض الصور توثّق أطفالًا بعيون زجاجية، بشرة صفراء، أسنان ساقطة، وجوه نحيلة تبدو كأنها لأشخاص مسنين.
يقول الدكتور الفرا: “هذا فقط جلد فوق العظام، الجسد يهضم الدهون والعضلات”.
وفي غرفة أخرى، تروي أم طفل أنها اضطرت لإطعامه نشاء الذرة المذوّب في الماء لأنه لا يوجد بديل.
طبيبة الأطفال ميخال فلادون علقت: “هذا لا يحتوي شيئًا سوى سعرات حرارية فارغة، لا بروتين ولا فيتامينات. الدماغ في هذا السن لا يتحمل نقصًا لخمسة أشهر”.
شهادات من متطوعين دوليين
– الطبيب نور شرف (أمريكا): “الصبي في عمر 15 يبدو كأنه في العاشرة. الجميع نحيل جدًا، ولا يحتاج الأمر لتحاليل مخبرية لرؤية سوء التغذية”.
– الدكتور وقّاس علي (تكساس): “في غرفة العمليات، الأطفال ينهارون بسرعة. تبدأ الجراحة، وفجأة ينخفض الضغط أو تنقطع الأنسجة. لا يوجد احتياط في أجسامهم”.
– الدكتورة ميمي سيد (أمريكا): “خارج مستشفى الأقصى، رأيت أطفالًا بوضوح مصابين بسوء تغذية.. بقع جلدية، تساقط شعر، بطون منتفخة”.
نظام صحي منهار وموت يومي
كما تؤكد صحيفة “هآرتس” العبرية، التي تغرّد خارج السرب الإعلامي الإسرائيلي، أن معظم مستشفيات غزة تضررت في الحرب، وبعضها خرج عن الخدمة. هناك نقص حاد في الوقود، الأدوية، الطواقم، والمعدّات. وتقول أيضًا إنه في جولة في مركز “نصيرات” لتثبيت التغذية (بإدارة الأونروا)، وُجد 13 أمًا مع أطفالهن. تفحص الممرضة أذرع الرضع بشريط قياس، وإذا كانت أقل من 12 سم يُسجَّل الطفل في برنامج غذائي خاص.
أطفال يقاتلون لأجل الحياة
ومن ضمن مضامين التحقيق المطوّل، فإن عبد الرحمن، رضيع، عاد للمركز بعد انتكاسة وشرب كيس التغذية العلاجية بنهم. التوأم لين وليان، 6 أشهر، وُضعت لهما أكياس بديلة عن الحفاظات، ويعانيان من طفح جلدي وسوء تغذية. أما محمد ابن الثلاثة شهور فيعاني من متلازمة داون ومن سوء تغذية. وكذلك هدى أبو نجا، ابنة الثانية عشرة عامًا، لا تعاني من أمراض مسبقة، لكنها نُقلت إلى المستشفى بسبب الجوع.
خطة تجويع مُمنهجة
وتوضح الصحيفة أنه منذ آذار/مارس 2025 منعت إسرائيل إدخال الغذاء إلى غزة لأكثر من شهرين، ووفقًا لتصريحات رسمية حذر قضاة محكمة العدل الدولية من استخدام التجويع كسلاح، وأمروا إسرائيل بإدخال الغذاء. لكن حتى مع الضغط الدولي، تم تنفيذ الإمدادات بشكل محدود جدًا، وبنقاط توزيع محدودة، ما أدى إلى ازدحام وفوضى وإطلاق نار على الجموع، والنتيجة: قتل بالجوع لأكثر من 250 شخصًا. نحو 2000 شخص أُطلقت عليهم النار أثناء محاولات الحصول على طعام، وآلاف الأطفال في حالة سوء تغذية حادة، ونحو نصف مليون شخص يقضون أيامًا كاملة دون طعام.
ختاماً
وتخلص الصحيفة العبرية “هآرتس” للقول، في ختام هذا التحقيق الذي يسحب البساط من تحت أقدام الروايات الإسرائيلية المتنكّرة للواقع: “يُعد هذا التحقيق شهادة صادمة لما يحدث خلف الجدران المغلقة في غزة. الوجوه الهزيلة، العيون المنطفئة، الأجساد المتقلصة، كلها تشهد أن الجوع هنا ليس فقط معاناة، بل إستراتيجية”.