حصاد نيوز – د.مؤيد السمان
لعلها المرة الأولى التي أتجه فيها لكتابة المقالة، وما يدفعني لهذا هو الرغبة الحقيقية للمساهمة في البحث عن مخرج من نفق الأزمة الماليّة التي تعصف ببلادنا، من خلال تحقيق وفرٍ ماليّ وتطوير مجموعة من الخدمات وتحريك عجلة الاقتصاد الوطني، أي تحويل التحدّيات إلى فرص ومكتسبات.
إن الهاجس الأكثر إشغالاً لسيدي صاحب الجلالة – حفظه الله – هو كرامة الأردنيين والأردنيات وتهيئة الحياة الكريمة لهم، وما الزيارات الملكية المتتابعة إلا للوقوف على حقيقة ونوعية تلك الخدمات وجودتها والتوجيه لتحسينها. لكن مسيرة الإصلاح والتطوير مسيرة طويلة ومتدرجة وتواجه مصاعب مُطّردة في ظل الأزمة المالية التي تمر بها المملكة.
فكيف إذاً سنطوّر ونرفع من سويّة الخدمات بالاعتماد الكُلّي على الذات؟ من هنا تبرز فكرة انشاء ” المدينة الحكومية “، وهي فكرة قديمة جديدة حيث بدأت بها أمانة عمان قبل حوالي العشر سنوات، الا أن الفكرة لم تجد سبيلها للنجاح والسبب الرئيسي – في رأيي – كان الاختيار غير الموفق للموقع حيث اختارت الأمانة في حينها ” كريدور عبدون وبدأت باستملاك العديد من الأراضي وبأثمان باهظة أثرت على الجدوى الاقتصادية للمشروع وإمكانية تنفيذه.
كذلك فان الفكرة بدأت تطبق جزئياً منذ أعوام في بعض المحافظات – مجمع الدوائر الحكومية – لكن دون انعكاس حقيقي على مستوى الخدمات، حيث بقيت الصعوبات الّتي يوجهها المواطن دون تغيير لعدم جمع الدوائر كافة في موقع واحد، كما أن كُلف الاستئجار والتشغيل بقيت كما هي وكذلك الخدمات اللوجستية المطلوبة للتسهيل على المراجع.
إن المقصود بالمدينة الحكومية هو تجميع كافة الوزارات والمؤسسات والدوائر الحكومية في موقع واحد خارج العاصمة عمان بحيث ينهي المراجع كافه خدماته في موقع واحد مع مراعاة تامين سبل للمواصلات مناسبه حيث يمكن توفير مواقف متعددة ومجانية داخل العاصمة عمان والمحافظات الاخرى مع توفير خط باصات سريعة التردد ما بين هذه المواقف والمدينة الحكومية فقط Park and Ride)) ، و أكثر من ذلك توفير مراكز لخدمة المواطنين واماكن انتظار مريحة وكذلك أماكن للاصطفاف ومطاعم و مسجد وحضانة أطفال وكافه الخدمات العامة و غيرها مما يليق بالمواطن الأردني، وهنالك العديد من التجارب ولعل التجربة الماليزية تعتبر أهمها و أنجحها. ومن جملة منافع إنشاء المدن الحكومية أختزل ثلاثاً :
الأول للمواطن – المراجع – الذي سيجد وسيلة مواصلات سريعة، منتظمة ومؤهّلة من وإلى المدينة الحكومية – أو بمركبته الخاصة، يتابع معاملاته أو يتسلمها باليد بأسلوب حضاري وبفتره وجيزة دون مواجهة المصاعب المعتادة من أزمة سير ونقص في المواقف ومراجعاتٍ لعدة دوائر في مناطق جغرافية مختلفة، وسيتمتع كذلك بالخدمات اللوجستية اللازمة لراحته والموفرة لوقته وجهده وماله.
أمّا النفع الثاني فموجّهٌ للاقتصاد الوطني على عموميته وخاصة مع اطلاق الحكومة مؤخرا للخارطة الاستثمارية وإنشاء وحدة الشراكة بين القطاعين العام والخاص. فإذا ما فُتح الباب للمستثمرين لتشييد تلك المدن بحقِّ استثمارٍ لا يقل عن الـ 25 عام بمبدأ التصميم، البناء، التشغيل، والتسليم (Design, Build, Operate and Transfer) ، مما سيتيح عائداً سنوياً على الاستثمار يتناسب مع مشاريع التطوير العقاري وبمعدل عائد داخلي على الاستثمار (Internal Rate of Return) لا يقل عن 15% و هو اعلى من معدل الخصم السائد بشكل عام. وبالتالي سينتعش سوق العمل عبر تشغيل عشرات القطاعات ومئات الأيدي العاملة المباشرة والآلاف من أرباب وعمال المهن والخدمات المباشرة وغير المباشرة، والمتابع لمسيرة الاقتصاد الوطني يدرك بأن قطاع الإنشاءات هو المحرك الرئيس لعجلة الاقتصاد خاصةً في ظل انتهاء المنحة الخليجية وبالتالي انخفاض للنفقات الرسمالية للحكومة ، التي ستستفيد من الانتفاع بتلك المرافق و تتملكها لاحقاً ، وبحيث يعمل المستثمر بعد التصميم والبناء على صيانة المباني الحكوميه و تشغيل و إدامة المرافق العامة مقابل ترتيبات ماليه مع الحكومة.
و الثالث لخزينة الدولة ، فتوفير مبانٍ حكومية ذات تصاميم حديثه تراعي العامل البيئي والمحافظة على مصادر الطاقة و إستخدام أنماط الطاقة البديلة مثل الطاقة الشمسية سيخفف بشكل كبير من تكاليف التشغيل إضافة للمبالغ التي ستجنيها الحكومة من استثمار العقارات المملوكة لها داخل العاصمة و الّتي ستشكل رافداً يمكنها – الحكومة – من الإنفاق نحو حقول أُخرى أبسطها تحسين مستوى معيشة المواطنين و تعزيز دعم البنى التحتية وأكاد أجزم بأن نجاح هذه الفكرة يعتمد بشكل أساسي على الموقع المختار بحيث يراعى بُعده المعقول عن العاصمة و الاكتظاظات المرورية ، و توفر البنية التحتية من طرق و مياه و كهرباء و إتصالات و يمكن كذلك استغلال الأراضي المملوكة لخزينة الدولة تخفيضا للتكاليف.
ولا شك بأن مثل هذه البيئة المتكاملة ستكون مصدر راحة وتسهيل على الموظف كذلك، إذ يستطيع عندها الإستغناء عن إستخدام مركبته الخاصة في معظم الأيام مستغلّاً الوسائل المتاحة ذاتها، في بيئة محفزة للعمل تتوفر فيها الخدمات المتنوعة الكاملة وقريبة للعودة إلى قلب العاصمة في أسرع وقت.
إن انشاء هذا المشروع لا يتعارض مع التوجه العام نحو الحكومة الإلكترونية بل على العكس يدعمه، فحتى مع تطبيق الحكومة الإلكترونية ، ستبقى لدينا وزاراتٌ و دوائر حكوميّة تقوم بدورها وتعنى بتقديم الخدمة للمواطنين، فمن الممكن الاعتماد على خدمة الدفع الإلكتروني للفواتير لكن من الصعوبة أن نتخلى تماماً عن مراجعة المواطن لبعض الدوائر بغية استصدار أوراق ثبوتية أو متابعة معاملات شخصية، كما أن نجاح مشروع الحكومة الإلكترونية مرتبط بالمنظومة البريدية في المملكة والتي ما زالت قيد التحديث و ليس من السهولة بمكان أن نوازي الدول الّتي استطاعت تفعيل خدمة إستلام و إيصال الوثائق من و إلى باب المنزل عبر صناديق البريد الخاصة المعمول بها حاليا، وكذلك الحاجه الى صيانة واكمال مشروع التسمية والترقيم و كافة الخدمات المساندة لهذا المشروع ، كما يلاحظ بأن العديد من المواطنين لا يزالوا يحجمون عن التعامل الإلكتروني نتيجة للخوف إما من التعامل مع التكنولوجيا أو من عدم الثقة بأمن أساليب الدفع هذه إضافة الى ضعف انتشار بطاقات الدفع الإلكترونيّ والبطاقات الائتمانيّة في الأردنّ ، حيث تشير الاحصائيات ان عدد الأردنيين الذين يستخدمون البطاقة الإلكترونية للدفع لا يمثّل سوى 5% من مجموع معاملات الدفع المالية وبالتالي فان الدفع من خلال الانترنت اقل بكثير حيث يفضل الكثيرون الطلب من خلال الانترنت والدفع نقدا عند التسليم.
لعل السطور لا تتسع لشرح كامل الفكرة، لكن استغلال أراضٍ قريبة ورخيصة نسبيّاً او مملوكة للحكومة مثل مناطق جنوب عمان او الأراضي الواقع على طريق عمان التنموي كالـماضونة – مثالاً – سيسهم في زحف التنمية نحو جنوب وشرق العاصمة والمملكة وينهي احتكار مناطق عمان الغربية للمستوى الخدميّ العالي.
هي فكرة قديمة جديده ضمن الإمكانيات الذاتية المتاحة، تحقق الوفر والتسهيل والانتعاش. فلنفكر بهذا جديّاً ولنستفد من التجربة الماليزية وتجارب الدول الأخرى وما حققته من نجاحٍ على هذا الصعيد، ونعممها على محافظاتنا لاحقاً.